لقد كانت للبحرين ثقافة وحضارة عريقة في عهد دلمون، وازدهارها في القرن الثالث قبل الميلاد، ولكن هذه الحضارة كغيرها من الحضارات العريقة تدهورت وتكالبت عليها حضارات دول مجاورة بعضها ادعى تبعية البحرين لها متناسياً أن حضارة دلمون وعمقها العربي وهويتها المتميزة كانت سابقة على حضارة بعض الدول المجاورة.
والأسوأ هو تكالب القوى الاستعمارية على البحرين، سواء الغزو البرتغالي ثم الاحتلال البريطاني وضعف الحكومات المتعاقبة على الدولة، حتى إن بعضهم أعلن تبعيته للفرس، وكان يرسل لها الإتاوات في إطار الصراع الداخلي ولا ينبغي الاعتماد في تاريخ البحرين على المصادر الأجنبية فقط، بل أيضاً على التراث الموجود في المتاحف والآثار، وكتابات العرب والمسلمين، وقبلهم هيرودوت وتاريخه المشهور، وهذا يستدعي إعادة النظر في بعض المناهج الجامعية وإنشاء مؤسسات متخصصة ارتباطاً بثلاثة أمور:
الأول: المعرفة الدقيقة لثقافة دلمون وتأثيرها على الشعب البحريني المنفتح على الشرق والغرب وأعالي البحار، وهذا ما أشرت إليه في كتابي «النظام السياسي في مملكة البحرين: الإصلاح في إطار الهوية»، والذي صدرت طبعته الثانية عام 2007 من مركز البحرين للدراسات والبحوث «السابق».
الثاني: تدقيق طبيعة الهوية البحرينية باعتبارها تاريخياً هوية عربية أصيلة قبل أن تظهر هويات دول مجاورة تدعي أن البحرين تابعة لها.
الثالث: النظرة المستقبلية فالعالم المعاصر يعيش الفكر المستقبلي، واستشراف توجهاته وبناء استراتيجية على ذلك، وأي زائر مدقق لمعرض الكتاب يلمس بوضوح هذه النظرة في ثلاث حقائق: أولها: البيئة الحضارية والخضرة والماء المحيطين بموقع المعرض وهذه لمسة حضارية جمالية تتماشى مع الاهتمام بالبيئة، والحفاظ عليها فكأن من أشرفوا وأعدوا المعرض واختاروا هذا الموقع كانوا يفكرون في المستقبل. ثانيها: إن أبرز الكتب المعروضة تناولت كتب التراث والدين وهما أحد ركائز الهوية، وكتب الأطفال وهم نواة المستقبل، وكتب العلوم والتكنولوجيا وهذه هي علوم المستقبل.
ثالثها: تراجع الكتب العلمية السياسية والقانونية والاجتماعية وإن شاهدت بعض مواقع لتلك الكتب في المعرض وبعض إصداراتها ولكن للأسف شابها أمران: الأول: هو أنها أكاديمية تقليدية وليس فيه تحديث لتلك العلوم لاستيعاب ما وصلت إليه في الدول الأخرى. والثاني: إن معظمها أصبح بغلاف صلب وليس الأغلفة المرنة التي تجعل الكتاب سهلاً في حفظه وقراءته، وهي المنتشرة في الجامعات بما في ذلك الجامعات البريطانية والأمريكية، وكانت سائدة ولاتزال في دول عربية، ولكنني لا أفهم لماذا الأغلفة الصلبة التي مجالها أرفف المكتبات فضلاً عن أنها تزيد من ثمن الكتاب، بلا مبرر منطقي، ولكن ذلك ليس خطأ للمعرض أو منظميه وإنما خطأ دور النشر التي يجب أن تعرف أهمية قراءة الكتاب وسهولة ذلك خاصة أن الكتاب الإلكتروني هو الذي يكسب الجولة الحالية، فقد تراجع الكتاب الورقي، ولابد أن يطور الناشرون فكرهم ليتماشى مع التطور الحديث.
أما بعض الكتب الدينية فهي تراثية وليست حديثة، ولا تتماشى مع التجديد في الفكر الديني، بما يعكس احتياجات المجتمع والشعوب وهذه رسالة موجهة للمؤلفين والناشرين، فالكتب التراثية مهمة، ولكن يجب إعادة النظر في مضمونها حتى لا تتخذ تكأة للفكر المتطرف والمتشدد والمتعصب.
وفي الختام لابد أن نشيد بالمثقفة المبدعة والمتألقة دائماً الشيخة مي بنت محمد آل خليفة، فشكراً لها على اهتمامها بتحديث المناطق التراثية، كما في المحرق وفي المتحف وفي باربار ومتحف القلعة في الرفاع، ناهيك عن المتحف الوطني الرائد في هذه التجربة، أما المنازل القديمة في المحرق التي تحولت إلى متاحف ومراكز للثقافة مثل مركز الشيخ إبراهيم، والبيوت المسماة باسم رواد الشعر مثل العريض ورواد الصحافة مثل الزايد، فهي تعبر عن الرؤية الشاملة لمفهوم الثقافة كأصالة وهوية ورؤية مستقبلية للبحرين، تعبر عن حضارتها العريقة وتطلعها نحو المستقبل. وثمة رجاء هو ضرورة عدم ترك أسعار الكتب للناشرين فمعظمها مبالغ فيه ولا يجب تحويل الثقافة إلى سلعة، والكاتب العربي حقه مهضوم بل ضائع فالناشر يحصل على كل شيء تقريباً.