تحضرني التجربة المغربية في موضوع مشابه لما (يتحلطم)عليه الشعب البحريني حالياً وحده دون مجيب، حيث تتجاهله الحكومة متعمدة هو موضوع «صندوق التقاعد».
في المغرب جراً نقاشاً ثرياً بين الحكومة والمجتمع المغاربي استغرق 3 سنوات خاطبت فيه الحكومة المجتمع المغاربي عبر الصحافة أجرت عدة لقاءات وعبر التلفزيون وتحاورت فيه مع مقدمي البرامج الحوارية، وتجادلت مع النواب، وأبدت كل القوى المغاربية من أحزاب وكتل نيابية واتحادات العمال رأيها في جميع الوسائل الإعلامية، بل هددوا بالإضراب وصاحوا بأن تلك الإجراءات هجمة على لقمة العيش وأكثر من ذلك حدث، أجرت الحكومة في هذه السنوات الثلاث عدة تعديلات على تعديلاتها قبل أن تقره، وقبل أن تطرحه للتصوت على مجلس النواب، وأثناء هذه السنوات تقبلت الحكومة كل الآراء المعارضة وأشركتهم في ما تعلم من معلومات، وتحدثت للناس مباشرة عبر جميع الوسائل الإعلامية وتعاملت برفق مع منتقديها وتجادلت وتحاورت وردت حتى قال رئيسها عبدالاله بن كيران في ديسمبر من العام الماضي رداً على انتقادات المعارضة «إن إصلاح نظام التقاعد يشبه إلى حد كبير تجرع الدواء المر»، ولن نكذب على المغاربة، إننا وجدنا أنفسنا مضطرين لهذا العلاج، وليس من الشرف أن نلوك الكلام ونصدّر هذا المشكل إلى الحكومات القادمة حفاظاً على مكاسب انتخابية».
للنظر إلى كيفية تعاطي الحكومة البحرينية مع المجتمع البحريني مع ذات الموضوع، فمن بعد تجاهل الحكومة (لتحلطم) الناس على موضوع التقاعد ستكتفي الحكومة بالرد الذي أرسلته للنواب والذي زاد الإبهام إبهاماً.
ووفقاً لتجارب سابقة فإن زاد (التحلطم) عن (حده) سيجد من (يتحلطم) أكثر من غيره حسابات معروفة على وسائل التواصل الاجتماعي تهاجمه وتطعن في وطنيته وشرفه (نشطت هذه الحسابات مؤخراً بعد أن خفت صوتها لعدة أسابيع) وربما سترفع على بعض (المتحلطمين) قضايا في النيابة العامة أن زاد (تحلطمهم) عن حده لتردعهم (بالقانون) عن أي تذمر أو شكوى خارجه عن حدود القانون , و رؤساء تحرير الصحف سيتكفلون بحجب مقالات من (يتحلطم) عكس سياسة وتوجه الصحيفة، وإن اعترض أي من النواب سيجد من زملائه من يردعه، وستسمر الحكومة بصمتها.
الخلاصة الحكومة ستواصل برنامجها التقشفي مطيعه بذلك ومتبعة لتوصيات البنك الدولي بحذافيرها والتي تحثها في كل زيارة لمبعوثيها على إجراء المزيد من (الإصلاحات) لتقليص العجز، وستسعى الحكومة للالتزام بتلك (الإصلاحات) إنما دون اكتراث (لتحلطم) الناس.
السؤال الآن هل هذه السياسة هي الخيار الأفضل؟ ولا أقصد هنا خيار الالتزام بتوصيات البنك الدولي من عدمه، بل خيار التعاطي مع (تحلطم) الناس، أم أن الخيار المغربي الذي يعتمد على الشراكة الفعلية بين الحكومة والمجتمع في اتخاذ القرارات و يعتمد على استباق الحكومة للشراكة بالتواصل مع المجتمع وعدم اكتفائها بنوابهم هو الأفضل؟
قبل أن نتسرع في الإجابة علينا أن ننظر للواقع البحريني الحالي كما تراه الحكومة.
أولاً: تعمل الحكومة الآن في أفضل الظروف الهادئة ماكنة (التحلطم) قابلة للسيطرة بالوسائل المذكورة أعلاه.
ثانياً: تنفذ الحكومة ما تراه مناسباً لسد العجز لمجتمع (سيتحلطم) في كل الأحوال، ترى الحكومة أن كثيراً منه لا يعرف مصلحته المستقبلية، وليس بالضرورة أن تكون الحكومة محبوبة الجماهير.
الإجابة إذاً أن الحكومة ترى أنها نجحت في خلق الأجواء المناسبة لها لتنفذ قراراتها التي تراها هي أنها الخيار الأفضل، وربما تنجح في سياستها الحالية الهادفة لخفض النفقات وتقليص العجز وربما تحصل على شهادة وتصفيق من البنك الدولي، إنما وهنا مربط الفرس، هي بذلك تجازف مجازفة كبيرة في حساب مقدار السخط الذي تصنعه و تبنيه بإصرارها على سياسة السيطرة على (التحلطم)، سخطاً لا تعرف حجمه ولا تملك قياسه، ولا تعرف إلى أين سيقود.
السخط المكتوم قد لا ينفجر صحيح ويظل بهذا الحجم القابل للسيطرة، ولكن ذلك ليس مضمون إلى ما لا نهاية بل ليس مضمون إلى السنة القادمة أو التي تليها أو حين يحين موعد الانتخابات، فهو سخط مجهول الحجم وعرضة للاستغلال و عرضة للانفجار، فما هي بدائل الحكومة حين ذاك؟ وما هي خططها خاصة أن الإجراءات التقشفية ستستمر على الأقل في الخمس سنوات القادمة وستزيد من حدتها.
ثانياً خلقت الحكومة بهذه السياسة فجوة كبيرة بينها وبين المجتمع، وهنا تكمن أشد أنواع الخطورة، خاصة أن الحكومة والحكم مرتبطان ارتباطاً ميدانياً مما يعقد الأمر ويجعله على درجة كبيرة من الحساسية.
الأخطر أن الحكومة هي التي يئست من شراكة المجتمع فرغم أنه بقي يعارضها، مازال المجتمع فاتحاً ذراعيه لها قابلاً بالتقشف معها، مقابل استحقاقات بسيطة جداً، مقابل أن يفهم أن يحترم رأيه أن يقتنع أن يشارك بإعطاء الخيارات والحلول، حتى يتحول (تحلطمه) إلى جدل صحي سليم يفيد ويستفيد ويخفف الضغط، ويتبادل فيه الرأي مع حكومته. وقد ينتهي الاثنان حكومة وشعباً باتخاذ ذات الإجراءات دون تغيير، إنما يكون الاثنان قد اتخذاها سوياً.
بعد ثلاث سنوات من الجدل أقرت الحكومة المغربية القانون، بعد أن أجرت تعديلات على التعديلات في يناير من هذا العام وازنت فيه إصلاحاتها بشكل يمتص السخط العام، وسيصوت مجلس النواب المغاربة عليه، وسواء مر أم لم يمر إلا أن الحكومة المغربية نجحت بهذه السياسية الانفتاحية على الشعب المغاربي ان تزيد اللحمة بين الحكم والمجتمع لا بين الحكومة والمجتمع فحسب، وهذه نتيجة في اعتقادي تفوق في أهميتها ألف توصية من توصيات البنك الدولي.
لا مانع أن نقول للمغاربة «أنت معلم ومنك أنت نتعلم».