منذ أكثر من 17 عاماً حضرت دورة عن الإدارة اليابانية، حاضر فيها خبير ياباني كانت أشبه بنقاش مفتوح، ومقتصرة على عدد صغير من الحضور. استهل المدرب الدورة بتهكمه على انضباطنا ولم يستطع أحد الرد عليه، فقد كان محقاً، ثم عرج على روح الإدارة اليابانية وثقافة اليابان وسر نجاحها وتقدمها وتفوقها وتميزها في العالم وعلى العالم، حيث يعتبر العمل الجماعي أحد مرتكزاتها الأساسية.
عندها ابتسمت وقلت في خاطري «وقعت يا شاطر ومحدش سمى عليك»، وهممت للثأر لكرامتنا التي تطاول عليها بتهكمه على التزامنا في الوقت «وهو محق ولكن في ذلك الوقت لم أكن أقبل أي مساس بنا أو تقبل النقد لنا كعرب»، عموماً قلت له: «من قال لك إن العرب لا يمتلكون نفس مفاهيم العمل الجماعي، بل إنها في صلب تراث ممارستهم المهنية»، وكنت أنتظر أن يتفوه لي بهذا الجواب «أثبت لي العكس»، وتنحى جانباً. حاولت أن أجمع في عقلي كل ما أعرفه وقرأته عن ثقافتنا عبر العصور، من قبل أيام «حمورابي» مروراً بزنوبيا، والأنبياء الذين خلق أغلبهم على أرضنا، وخفرع ومنقرع حتى «عرفج»، ولا تسألوني من هو عرفج ولكن ستجدونه يتسكع في أحد الحواري العربية التي لم تدمر حتى الآن يفتي ويدعي المعرفة!
قلت له إن هناك 4 أنماط لروح الجماعة في المجتمعات العربية، ولن تجدها متوافرة جميعاً في أي مجتمع آخر، وسأبدأ بأقربها لك وهو مجتمع الريف الذي يعتمد كلياً في نجاحه -منذ أن وجد حتى الآن- على روح العائلة الكبيرة التي يعمل جميع أفرادها دون استثناء في الفلاحة، وعناصر الإنتاج الأخرى المرتبطة أو الداعمة أو الناتجة عنه رجالاً ونساء وكباراً وصغاراً وشباباً وشيباً، وأن هذه الخلية «تتعنقد» -من عناقيد- مع خلايا، وعائلات أخرى عندما يبدأ الحصاد أو في بدايات الفلاحة وبذر البذور ولهم أيامهم الجميلة وعلاقاتهم الرائعة التي تذيب الفروقات وتحولهم إلى خلايا مترابطة يعززها في كثير من الأحيان التزاوج. وواصلت الحديث معه فقلت له، أما النموذج الثاني، وهو قد يكون قريباً منكم بعض الشيء أيضاً، فهم أهل الجبال ورغم أن التضاريس العربية في مجملها ليست جبلية ولكن أهل الجبال في لبنان وسوريا وفلسطين المحتلة واليمن وعمان وجنوب غرب السعودية يعرفون تماماً أن استمرارهم مرتبط بتعاونهم وتآزرهم مع بعض.
النموذج الثالث، وهو بعيد عنكم وهو جزء من خصوصيتنا، «القبيلة» التي يدرك أفرادها أن استمرارهم وبقاءهم في قلب الصحراء مرهون بتكاتفهم مع بعض، وذوبانهم مع بعض، وبرغم ما يشوب القبيلة من تعصب سببه الأساس ظروف البيئة القاهرة والعزلة في قلب الصحراء، إلا أن حياتها الداخلية لا تختزلها سوى عبارة الكل في واحد والواحد في الكل. «وللحديث بقية».