من الأمور العالقة في ذاكرتي من ذكريات الطفولة موضوع «الأمن المجتمعي»، بالطبع لم أكن أعي مفهوم الأمن المجتمعي آنذاك، ولكني وأنا أسترجع ذكرياتي أتذكر أن «الفريج» أو الحي الذي كنت أعيش فيه كان عصياً على أي غريب.
مازلت أتذكر وقوف أبناء «الفريج» آنذاك في حالة وجود أي وجه غريب في «فريجنا».
كانت هناك حالة من الاستنفار إذا ما زار «فريجنا» آنذاك أي غريب.
ترى جميع أهل الفريج ينظرون إليه بنظرة فاحصة ولا يتورع أبناء الفريج عن سؤال هذا الغريب عن سبب وجوده في الفريج! أو حتى طرده من الفريج في حال إذا ما كان عذر تواجده غير منطقي! كان الفريج محمياً وكان أهله يشعرون بأمان مطلق، لدرجة أننا كنا ننام وأبواب بيوتنا مفتوحة! كانت أمي مثل غيرها من الأمهات آنذاك يشعرن بالأمان ونحن نلعب ونلهو في الفريج فهن كن على ثقة مطلقة بأن الفريج أمان، وأن جميع جيراننا بمثابة الإخوة وأن أبناء الفريج مسؤولون عنا وعن أمن الفريج.
لم أذكر أنني شاهدت شرطياً قط في طفولتي في فريجنا لأي داعٍ أمني، لدرجة أنني أتذكر عندما غابت بنت جيراننا «منيرة» عن أنظارنا ورحنا نبلغ أمها بأن «منيرة» ضاعت! أو بشكل أكثر دقة «لا نعلم أين اختفت» لم تقم الأم بالاتصال بالشرطة بل كلفت أبناء «الفريج» بالبحث عنها، علها تكون في أحد بيوت الجيران! ولقد عثرنا عليها فعلاً في أحد البيوت!
لا أقصد من كلامي أن أعطل الدور الرائد الذي يقوم به رجال الأمن، بل أقصد أننا لم نكن نحتاج إلى رجال الأمن ليوفروا لنا الأمن والأمان، فلقد كان كل فرد فينا آنذاك يستشعر ضرورة الحفاظ على الأمن المجتمعي، وكان جميع الجيران على اختلاف أجناسهم وأعراقهم ودياناتهم يؤمنون بأن الحفاظ على أمن الفريج واجب كل فرد منهم، فأمن جاري من أمني لدرجة أن الأبواب كانت مفتوحة.
وأذكر عندما كنا نلعب لعبة «الخشيشة» وكانت قواعد هذه اللعبة تستوجب أن نختبئ ويبحث عنا الآخرون كنا «ننخش» أو نبحث عن مكان للاختباء فيه في أي من بيوت الفريج! كان جميع من في «الفريج» يؤمن بأن جميع أبناء الفريج أبناؤه، فيخاف عليهم بل ويوبخهم كما يوبخ أبناءه إذا ما قاموا بأي تصرف خاطئ.
كان جميع أهل «الفريج» كالعائلة الكبيرة، وكانت جميع بيوت الفريج كبيوتنا، ندخلها دون استثناء ونأكل ونلعب ونلهو فيها دونما أي حرج!
كان كل فرد من أفراد الفريج يسعى إلى استتباب الأمن فقد كانوا واعين لمفهوم «الأمن المجتمعي»، حتى وإن كانوا لا يفقهون هذا المصطلح حرفياً، ولكنهم كانوا يؤمنون بما يحتويه هذا المفهوم.
فتعريف الأمن الاجتماعي كما ذكر أستاذ الاجتماع د.إحسان الحسن يعني «سلامة الأفراد والجماعات من الأخطار الداخلية والخارجية التي قد تتحداهم كالأخطار العسكرية وما يتعرض له الأفراد والجماعات من القتل والاختطاف والاعتداء على الممتلكات بالتخريب أو السرقة»، في حين يرى فريق من علماء الاجتماع أن غياب أو تراجع معدلات الجريمة يعبر عن حالة الأمن الاجتماعي، وأن تفشي الجرائم وزيادة عددها يعني حالة غياب الأمن الاجتماعي، فمعيار الأمن منوط بقدرة المؤسسات الحكومية والأهلية في الحد من الجريمة والتصدي لها، وهنا أشدد على أن الأمن هو مسؤولية حكومية وأهلية، ونعني بأهلية هو أنت وأنا وسائر أفراد المجتمع.
أي أننا جميعاً لنا دور يشبه دور رجل الأمن تماماً، فلا يعقل أن أعلم بأن أحد أفراد منطقتي ينوي تفجير المنطقة التي أسكنها مثلاً وأقف مكتوفة الأيدي مدعية أنه ليس من مسؤوليتي الإبلاغ عنه! إنه ليس من مسؤوليتك فقط بل هو من الواجب والمفترض عليك أن تتدخل وتمارس سلطتك في الحفاظ على الأمن المجتمعي.
لا يعقل أن أعرف بأن أحد أبناء منطقتي يتاجر بالمخدرات وأصمت، فالخطر يحيط بي وقد يكون أحد أفراد أسرتي من المتعاطين في يوم ما إذا ما صمت وسكت معتقدة أنه ليس علي الإبلاغ عن مثل هذه التصرفات.
إن الحفاظ على الأمن المجتمعي هو واجب كل مواطن ومقيم على هذه الأرض، ولنعِ بأن أي شر يتربص بوطننا سيصيبك أنت أيضاً ولن يخطئك.
فلتكن شريكاً فعلياً في الحفاظ على الأمن المجتمعي.