في عصر التقنية والمعلومات عزف الكثير من القراء عن التهافت على الجريدة، ولا تشده إلا التي تخرج عن المألوف في عرض الأخبار التقليدية، وفي طرح موضوع ساخن تستخدم فيه الإثارة، أو تناول خبر خارجي تتعمد الدول التعتيم عليه فيغامر الكاتب بالبحث والتقصي عنه ثم المجازفة بنشره، أوالمخاطرة في كشف أسرار أو تعرية وفضح جهة أو ملاحقة مفسد ورغماً أن كل تلك الموضوعات محفوفة بالمخاطر وربما ضررها على الصحيفة وعلى الصحافي والكاتب أكبر من نفعها وقد تجلب لهما صداعاً ما ينفك يلاحقهما لكن من يقرر ركوب البحر يتحمل هيجانه وتلاطم أمواجه.
ولكون أن أي كاتب وصحافي يطمح بأن يسمع صرير قلمه لكل أذن واعية ويمتد فكره إلى أكبر شريحة من القراء، كان لزاماً عليه أن يحاكي تلك الطبقة العريضة من «شريحة الشباب»، وبكل الوسائل التي تستهويهم وتستقطبهم فتحول الكثير من الكتاب إلى التحليق في عالم الفضاء بعيداً عن البيروقراطية والروتين القاتل في تلقي ونشر الخبر، بعد إصرار بعضهم على تعلم وإتقان وسائل التواصل الاجتماعي وإنشاء الحسابات المتعددة على وسائل التواصل الاجتماعي، مثل «فيس بوك» و»واتس اب» و»انستغرام» و»تويتر» و»سناب شات».. وغيرها لسرعة ملاحقة الخبر وفرز الغث عن السمين، وفضح الشائعات وقبرها وتفنيد الأكاذيب ودحضها والبحث عن الحقيقة التي أصبحت نادرة وحالها كابرة غائصة في كومة قش.
وقد استطاعت تلك التقنية والبرامجيات والفضائيات أن تسحر الملايين، وتلتقط وتبث العاجل من الأخبار وقت وقوعه ويشبع الخبر استنباطاً وتحليلاً ولم يعد أحد إلا ما ندر من ينتظر شروق الشمس ليتصفح الجرائد الورقية، فهي غدت إما كعادة التصفح مع شرب فنجان القهوة صباحاً أو لحال مسن فاته قطار التقنية.
ولم يعد للخبر أية قيمة عند نشره في مطلع صفحات الجرائد، وقد يأتي وقت ولا أظنه بعيداً ستتربع فيه الصحف الإلكترونية وستضيق معها المساحة الورقية وستضمحل، وستعلن الكثير من الصحف إفلاسها وتسريح موظفيها وغلق مطابعها.
إن انفتاح العالم وزحمة السماء بآلاف الأقمار والمجسات والموجات التي أصبحت تراقب كل شاردة وواردة على الأرض وعلى مدار الساعة لترفدنا بالكم الهائل من المعلومات والأخبار والاضطرابات التي أصبح من المستحيل معها تسكين وتجميد الخبر إلى اليوم التالي لنشره، وأصبحت مفردة السبق الصحافي من مصطلحات الماضي. لكن ومع ما لهذه التقنية من ميزات سهلت علينا التقاط الخبر ثم فرزه والتعليق عليه وقت وقوعه إلا أنها جلبت لنا المتاعب والمصائب.
فإن كان للصحف الورقية رقيب ومقص وهو يعمل في الغالب لصالح الكاتب وحمايته، فإن تلك الوسائل الحديثة يتم متابعتها من قبل كل الجهات في الداخل، ويرصدها كل من في الخارج ولا يوجد جرس إنذار فيها ولا رقيب، ولا تستبعد أن تستوقف يوماً ما في أحد المنافذ أو المطارات في بلد ما على تغريدة أو مشاركة كنت قد أبرقتها في حالة غضب أو انفعال ونسيتها لكن الجهات الرقابية في تلك البلد قد ضمتها لك لتعكر عليك حياتك، هذا إن استطعت أن تنفد بجلدك، أو أن أسيء فهم تغريدتك وغلفت بدعوى كيدية بمساسك للشؤون السياسية أو الدينية في تلك البلد، فما أسهل أن تكتمل أوراق استدعائك وتساق مكبلاً إلى المحاكم وإجراءاتها السلحفاتية، وبعد أن يقتنع القاضي ببراءتك وتغريداتك الثبوتية يكون الشارع قد سلخ جلدك ونهش لحمك وورم عظمك في تلك البلد.
أما عن سيل النقد اللاذع والتهديد والوعيد من أصحاب الحسابات الوهمية أن تطرقت لموضوع شائك كالإرهاب، وأدليت بدلوك فهذا منزلق ومطب آخر، وقد يصل الأمر إن كشفت ضلالة فكرهم وضحالة نهجهم أن يخترق حسابك الهكر ويعطل كل حساباتك ويصلك التهديد والوعيد ربما لعقر دارك وتلاحقك الكوابيس في منامك وتجعلك شارداً حتى في تبتلك وصلاتك!
هكذا أصبح اليوم الفضاء مفتوحاً والسماء ملبدة بالغيوم ولا تعلم هل تحمل لك صيباً نافعاً أم إعصاراً قالعاً!!
فأصبح الكاتب وصاحب العمود المقروء والصحافي اليوم في مفترق طرق، فإن بقي في نهجه العتيق وسط هذا الكم المتدفق سوف لن يطلع على مقاله إلا النزر اليسير من مقرب أو صديق، وسيمحى من الذاكرة ولن يتبقى له من إرثه الصحافي سوى هوية نقابة أو جمعية وإرشيف مقالاته وتحقيقاته ليتغنى بها على الأطلال!!
وإن تجرأ وغاص في العالم الرقمي والفضائي فربما ستنغص عليه عيشته وسيبحر في عالم مليء بالأخاديد والتجاويف والسباحون فيه من المهارة ما لا قدرة بمفرده على مجاراتهم.
أخلص إلى القول إنه بات فرضاً على كل من يعمل في المجال الصحافي والإعلامي إن يتقن التعامل مع هذه التقنية وأن تتكاتف الجهود الرسمية ومن أعلى السلطات التشريعية والتنفيذية بالتحرك لعمل مؤسسي جماعي علمي رصين ودورات تدريبية مكثفة لمجاراة القفزات الهائلة لمن يعمل في الإعلام بكل تشكيلاته، وإلا فالعدو متمكن من الإعلام وماكر وحاذق في استخدام التقنية ولغة الأرقام وسيغرق قواربنا الإعلامية المتآكلة أصلاً، وسيتمكن منا ومن شعوبنا ثم ولات حين مندم، عسى أن تصل كلماتي للقائمين على الإعلام ولكم منا كل التقدير والاحترام.