لم تعد الولايات المتحدة الأمريكية على الرغم من كونها الدولة العظمى الأولى في العالم هي أمريكا التي كنَّا نعرفها، فشخصية الدولة العميقة سياسياً بدأت تتآكل وبدأت تتهاوى منها أجزاء كبيرة جداً كما بدأت تضعف «كرزمائياً» إن جاز لنا التعبير، مما أضعف من هيبتها وحضورها الطاغي في مشارق الأرض ومغاربها.
لا نريد أن نبالغ أو أن نسير خلف عواطفنا وأمنياتنا السياسية فيما يتعلق بنظرتنا الأخيرة لواشنطن، كما لا يجوز أن نقلل من قوتها كدولة عظمى في العالم، لكن بكل تأكيد، لم تعد أمريكا هي أمريكا التي كانت تسجد لها كل الدول، وذلك لمجموعة من العوامل والأسباب السياسية والعسكرية والاستراتيجية، ناهيك عن التغيرات الحاصلة في مناطق الصراع وتحديداً منطقة الشرق الأوسط، وظهور مجموعات مسلحة بدأت في التمدد وفرض سطوتها كجيوش وليس كجماعات عابرة أو طارئة.
إضافة لكل هذه العوامل، لا يمكن أبداً أن نتغافل عن ظهور قوى عالمية كبيرة منافسة لأمريكا كالصين وروسيا والهند وبعض من نمور آسيا، هذه الدول التي بدأت تفرض نفسها كقوى حقيقية على الصعيد السياسي والإقتصادي والعسكري فنالت إعجاب الكثيرين حتى من حلفاء وأصدقاء واشنطن، فبدأت بعض الدول تحجُّ إلى عواصمها عند كل معضلة دولية فشِلت أمريكا في حلِّها، أضافة الى أن الدول التي ظهرت كندٍّ للولايات المتحدة الأمريكية كروسيا والصين أخذت قسطاً كبيراً من هموم أمن دولنا واقتصاداتها ومستقبلها، مما يعني أن واشنطن بدأت تقلق من تنامي الوجود الروسي العسكري والسياسي ومن تنامي هيبة التنين الصيني المُدَعَّم باقتصادٍ لا يُعلى عليه والذي بدأ في ابتلاع اقتصادات كبريات الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا.
ربما تكون هذه المعطيات الحقيقية هي مقدمات علمية لتغيير قادم في لعبة الأمم، وسواء أرادت واشنطن أم لم ترغب في أن تلعب أو تنسحب من منطقة النفوذ الدولي كدولة عظمى سيكون من الواجب عليها أن تعترف قبل كل شيء أن حجمها بدأ ينكمش في تلكم المناطق الملتهبة، وهذا الأمر قد يسارع بالكثير من الدول أن تهرول سريعاً نحو الدول العظمى الجديدة التي أفرزتها الأحداث الأخيرة في العالم، وعلى الخصوص أحداث الشرق الأوسط.
ما ينبغي على الدول العربية اليوم هو أن تقف موقف المتأهب من الصراعات الحاضرة لنسج خيوط المستقبل، بل يجب عليها ومن الآن أن تقوم بالفعل قبل أن تستجيب مُجبرة لردود أفعال غير محببة لديها، فكل دول العالم بدأوا يفتشون عن حلفاء أقوياء لوقت الأزمات السياسية الكبرى، وألا يعوِّلوا أو يعتمدوا في بناء أوطانهم على حليفٍ واحدٍ أو على قطبٍ مركزي بدأ يخسر الكثير من موقعه بسبب الأخطاء الكبيرة والغبية التي ارتكبها ومازال يرتكبها عن جهل أو عمد، فعصرنا الراهن هو عصر التحالفات المتنوعة والقوية وليس زمن الحليف الواحد، ذلك الحليف الذي يمكن أن يُسْقِط كل من يمسكهم من الحلفاء في طرفة عين.