نواصل في الجزء الثاني من المقال حديثنا عن ثقافة عدم تقبل الآخر أو ثقافة اللاتقبل للآخر، وتناولنا مثالاً لذلك، الصراع في إيرلندا الشمالية، وذكرنا ان الصراع يشكل نموذجاً دموياً لأبرز الصراعات المهمة في العالم التي تقوم على أساس الدين والطائفية. فقد انقسمت الأحزاب في إيرلندا الشمالية إلى طائفتين، البروتستانت «القوميين» وهم الموالون لبريطانيا والكاثوليك «الجمهوريين» وهم الموالون لإيرلندا، واندلعت الحروب مما أدى إلى مظاهرات دامية، وسقوط العديد من القتلى، والضحايا المدنيين، ونتيجة الوضع المؤلم تم توقيع اتفاقية الجمعة العظيمة في عام 1998 التي كانت الخطوة الأولى لإقرار عملية السلام بين الأطراف المتنازعة في إيرلندا الشمالية. ولذلك، فقد تم بناء جدران عظيمة في السمك والطول تفصل ما بين الأحياء التي يقطنها الكاثوليك عن تلك التي يقطنها البروتستانت، كوسيلة للحماية من آثار الحرب الأهلية المدمرة، سميت لاحقاً بـ «جدران السلام».
ولم تستطع تلك الجدران تحقيق السلام، بل عززت حالة العزلة والانفصال ما بين المواطنين. لقد حولت تلك الجدران إيرلندا الشمالية إلى أحياء مغلقة وكئيبة لقرون متعاقبة، وحتى الآن، فالمسافر الذي يزور مدينة بلفاست يلاحظ أن الحياة في تلك المدينة هادئة هدوءا مروعاً حيث تنتهي الحياة فيها بعد الساعة الخامسة عصراً، ويلاحظ أن العملة النقدية التي تصرف في إيرلندا الشمالية تصبح غير قابلة للاستخدام أو الصرف في بريطانيا وذلك لاستئثار الحزب الكاثوليكي الجمهوري «الإيرلندي» بعملة نقدية تحمل صورة موجه الحزب الجمهوري الإيرلندي بدلاً من صورة ملكة بريطانيا.
وقد بدأت عمليات نشر السلام وثقافة تقبل الآخر من خلال تشجيع حكومة بريطانيا كلا الطائفتين على الخوض في جميع الميادين بنسب متعادلة، للتعايش معاً، ولذلك فقد تم وضع أبواب في الجدران التي تفصل ما بين أحيائهم، لكسر روتين الخوف والروع من التعامل مع الطرف الآخر، وتم تعويض أهالي الضحايا من الأطراف المتنازعة، ونشر ثقافة التسامح والبناء وتقبل الآخر في كافة البرامج التعليمية والإعلامية والتدريبية. إلى جانب أنه تم مراعاة توزيع القسائم السكنية الجديدة لتضم كلا الطائفتين بجانب بعضهم البعض حتى يسهل أمر التعايش والمودة فيما بينهم.
وخلال مقابلتنا للعديد من أهالي ضحايا النزاع من الكاثوليكيين والبروتستانتيين، تبين لنا أن هناك من ارتضى بالوضع الراهن الممثل في «السلام السلبي»، أما الآخرون، فكانت لهم وجهة نظر مختلفة بتاتاً حيث أشاروا إلى أن ثقافة تقبل الآخرغير قابلة للانصهار بالرغم من كافة برامج التأهيل والتدريب المتوفرة من أجل ذلك، فالأطراف المتنازعة قد يعملون تحت سقف واحد كأصدقاء، إلا أن هذه العلاقة تنتهي فور انتهاء ساعات العمل لتتحول إلى سخط وكراهية وتعصب وعداوة، كما أكدوا ضمناً سعيهم الدؤوب نحو إعادة سيادة إيرلندا الشمالية إلى إيرلندا الأم.
يعلق رئيس الحزب الجمهوري الايرلندي، جيري آدامز على ذلك بقوله «يظل الحوار هو المفتاح لإيجاد استراتيجيات سياسية قادرة على الدفع قدماً بعملية السلام، فالحوار شرط أساسي لا مفر من الإقبال عليه، وأن أصعب التفاوض هو التفاوض مع الجانب الذي تنتمي إليه نفسك. فليس بالأمر الهين على الإطلاق أن تقنع رفاقك وأنصارك الذين طالما كانوا ضحايا للاضطهاد والظلم - من وجهة نظرهم بالطبع - بأن يمضوا في طريق مغاير تسعى من خلاله إلى تحويل أعدائك إلى أصدقاء. فهنا يكمن التحدي الحقيقي. ويزداد الأمر صعوبة حينما يتعامل من تتفاوض معهم مع العملية كما لو أنها كانت وسيلة لإلحاق الهزيمة بك».
وفي حقيقة الأمر اننا اليوم أمام ممارسات كثيرة - وخاصة في الوطن العربي - ترفع أكثر من أي وقت مضى سقْفَ جرمها بالمزيد من استعمال العنف اللفظي والجسدي جراء زرع الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية، سبّبتها «أشواك الكراهية» المزروعة في الإنسان منذ ولادته ضد أخيه الإنسان، والتي هي موروث متوحش، قد يفزع لإصابة الحوت، ولا يتألم على من يلتهمه الحوت، أو تقذفه أمواج البحر، أو تقبره رمال الصحاري تيهاً وضياعاً. ولذلك فقد نادى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948 على أنه «يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق». وجاء ذلك من منطلق أن المجتمع الديمقراطي التعددي لا يمكن أن يتأسس إلا على التسامح واحترام كرامة كل البشر، باعتبار أن الثقافة ينبغي أن ُينظر إليها بوصفها مجمل السمات المميزة، الروحية والمادية والفكرية والعاطفية، التي يتصف بها المجتمع وعلى أنها تشمل، إلى جانب الفنون والآداب، طرائق الحياة، وأساليب العيش معاً.
ختاماً، ما فائدة أن تبني الأمم والأوطان جدار سلام معنوي فقط يفصل بين مواطنيها، لذلك نحمد الله على نعمة السلام والتسامح والعطاء في البحرين، فنحن في المملكة.. كلنا أسرة واحدة.. نتضامن مع أجل بحريننا.. بعيداً عن الأتربة الملوثة.. فهذه البحرين كالدرة الرصينة المغلفة بالحب.. هي بحرين السلام والعطاء والتسامح في ظل رؤية حكومتنا الموقرة التي رسمها حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفه، عاهل البلاد المفدى، حفظه الله وأيده، وصاحب السمو الملكي الأمير خليفة بن سلمان آل خليفة، رئيس الوزراء الموقر، حفظه الله، وصاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن حمد آل خليفة، ولي العهد نائب القائد الأعلى النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء، حفظه الله.