«النهضة حزب سياسي، ديمقراطي ومدني له مرجعية قيم حضارية مسلمة وحداثية، نحن نتجه نحو حزب يختص فقط في الأنشطة السياسية، نخرج من الإسلام السياسي لندخل في الديمقراطية المسلمة، نحن مسلمون ديمقراطيون ولا نعرف أنفسنا بأننا جزء من الإسلام السياسي، نريد أن يكون النشاط الديني مستقلاً تماماً عن النشاط السياسي، هذا أمر جيد للسياسيين لأنهم لن يكونوا مستقبلاً متهمين بتوظيف الدين لغايات سياسية، وهو جيد أيضاً للدين حتى لا يكون رهين السياسة وموظفاً من قبل السياسيين».بتلك التصريحات، أعلن رئيس حركة «النهضة» الإسلامية في تونس راشد الغنوشي خلع الحركة عباءة الإسلام السياسي، وتحولها إلى «حزب سياسي وطني مدني ذي مرجعية إسلامية يعمل في إطار دستور البلاد ويستوحي مبادئه من قيم الإسلام والحداثة»، على حد تعبير الغنوشي. لكن الأمر لا يتوقف عند التصريحات التي أطلقها الداعية الذي نشط في سبعينيات القرن الماضي وأحد أبرز وجوه الإسلام السياسي في تونس والعالم الإسلامي، والذي عاش في المنفى في لندن نحو 20 عاماً قبل أن يعود إلى تونس بعد ثورة 2011، حيث إن تلك القرارات الأخيرة للحركة تتابع بترقب واهتمام شديدين من الأحزاب السياسية في تونس والتي تشكك في تحولات الحركة وتتساءل عن مغزى ذلك وتوقيته وتأثيره على الحياة السياسية في البلاد، بل تنتظر إثباتات على ذلك التغيير المعلن، لا سيما وأن الأحزاب في تونس تعتبر مستوى تصريحات قادة «النهضة» ربما يكون مطمئناً لكنه غير كاف، ويجب أن تثبت الحركة ذلك في خطاباتها السياسية وفي علاقاتها بالأحزاب العلمانية، وتحولها لحزب مدني شكلاً ومضموناً، وتحقيق ما وعدت به من فصل بين النشاط الدعوي والسياسي على أرض الواقع، وعدم إبقائه حبراً على ورق، وإثبات حسن نواياها والابتعاد أكثر ما يمكن عن منطق المناورة، خاصة وأن تصريحات وزير الخارجية السابق وصهر الغنوشي، رفيق عبد السلام والتي أكد فيها أنه «لم يعد هناك حاجة للإسلام السياسي الاحتجاجي في مواجهة الدولة، ونحن الآن في مرحلة البناء والتأسيس، ونحن حزب وطني يعتمد المرجعية الإسلامية ويتجه إلى تقديم إجابات أساسية على مشاغل واهتمامات التونسيين في الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتنموية»، لم تكن كافية للرد على تساؤلات التونسيين، فمن ينتهج فكر الإسلام السياسي ليس بالضرورة أن يكون في صدام واحتجاج ضد الدولة، ولعل تجربة الإسلاميين – سواء سنة أو شيعة - في دول عربية خير مثال على ذلك. وربما هذا ما دفع الإعلام التونسي إلى توجيه سؤال حاسم لـ «النهضة» وقادتها مفاده «هل تريد حركة النهضة دمقرطة الإسلام أو أسلمة الديموقراطية؟».وهذا التحول الذي يثير تعليقات واسعة في تونس ويدرس منذ سنوات، يقدمه مسؤولو النهضة على أنه نتيجة تجربة الحكم وتحول تونس من الاستبداد إلى الديمقراطية إثر ثورة 2011. لكن لا يمكن تجاهل حقيقة أن «النهضة» من أكثر الحركات الإسلامية إقليمياً ودولياً التي تستفيد من أخطاء غيرها من الأحزاب والتيارات الإسلامية خاصة تجربة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر بعد ثورة يناير 2011، وهو ما جعل الحركة التونسية تتغلب على معضلات أزمة 2013 من خلال تنحيها عن السلطة طواعية. وربما يبدو التغيير الذي أقرته «النهضة» مؤخراً يتوافق مع آراء غالبية الشعب التونسي، خاصة وأن استطلاعاً للرأي أجرته مؤسسة «سيغما» التونسية بالتعاون مع المرصد العربي للديانات والحريات ومؤسسة «كونراد إديناور»، أظهر أن 73 % من التونسيين يؤيدون الفصل بين الدين والسياسة. ولعل المشهد الأبرز الذي خيم على تحولات النهضة، كان خلال افتتاح الحركة الإسلامية مؤتمرها العاشر في مدينة الحمامات جنوب العاصمة، بحضور آلاف الأشخاص بينهم الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي، وظهور السبسي محيياً أنصار الحركة، متوسطاً الغنوشي، والنائب الأول لرئيس مجلس النواب عبدالفتاح مورو، مع أن الرئيس وحزبه «نداء تونس» شنا في الماضي حملة شعواء على الحركة الإسلامية التي كانا يصفانها «بالظلامية» ويتهمانها «بالتعاطف مع الإسلام الجهادي» عندما كانت في السلطة، وهو الأمر الذي يفسره المراقبون على أنه أمر متعمد ومقصود من السبسي والغنوشي على إظهار تقاربهما رغم ما يثيره من حساسية قسم من جمهوريهما.ولا يمكن تجاهل وصول «النهضة» إلى السلطة وتنحيها عنها، خاصة وأنها واجهت صداماً كبيراً مع حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي وخرجت منتصرة من أول انتخابات ديمقراطية جرت بعد ثورة 2011، وبعد أن أمضت سنتين في غاية الصعوبة في الحكم قررت التنحي إثر ضغوط شعبية نتيجة الأزمة السياسية الخانقة التي ضربت البلاد، باغتيال اثنين من قادة المعارضة العلمانية هما شكري بلعيد ومحمد البراهمي. ونهاية 2014 جاءت النهضة ثانية في الانتخابات التشريعية بعد حزب «نداء تونس» بقيادة الرئيس الباجي قائد السبسي، لكنها تبقى حزباً مؤثراً في البلاد والسياسة التونسية رغم أن قرار الدخول في ائتلاف حكومي مع حزب «نداء تونس» أثار جدلاً كبيراً داخلها لكن قادتها استطاعوا التغلب على ذلك التحدي. وتعد «النهضة» اليوم القوة السياسية الأولى في البرلمان بعد الانقسامات التي شهدها حزب «نداء تونس» الذي تقيم معه ائتلافاً حاكماً.* وقفة:قرار «النهضة» بفصل النشاط السياسي عن الدعوي يستحق المتابعة والتدقيق والتمحيص والمراقبة، وسيأخذ وقتاً في بيان حقيقته على أرض الواقع، لاسيما أن الهدف المعلن البعد عن نموذج حكم «الإخوان المسلمين»، والظهور في صورة حزب حداثي يسعى لاستعادة الحكم، ونجاح التجربة سيمثل تحولاً كبيراً في فكر التيارات الإسلامية، خاصة أن المعارضين لـ «الإسلام السياسي» يرون تحول «نهضة تونس» لحزب سياسي مدني وخلع عباءة الدين أمر لا يعدو كونه انحناءً للعاصفة ومراوغة ومناورة سياسية وبراغماتية تتلون الحركة من أجلها بتلون الظروف السياسية والأوضاع الإقليمية والدولية، لتحقيق مآرب على المستوى البعيد، وهي اتهامات تضع تيار «الإسلام السياسي» على المحك.. فهل ستنجح «نهضة تونس»؟
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90