في الوقت الذي ينادي فيه العقلاء بالتهدئة والاستفادة من كل دعوة ترمي إلى إغلاق ملف المشكلة التي دخلت عامها السادس وأرقت الجميع، يأتي من يدعو الناس إلى «المشاركة في وسم يدعو إلى الثأر والقول إن القصاص وملاحقة هذه المجموعة أو تلك لا يسقط بالتقادم». هذه مشكلة، والواضح أن الجمعيات السياسية وعلماء الدين المحسوبين على «المعارضة» لا يزالون غير قادرين على إيجاد حل لها، حيث الدعوات إلى الانتقام يعني الحث على عدم وضع نقطة في نهاية السطر ويعني الرغبة في استمرار المشكلة بل تعقيدها رغم أن هذا الأمر ليس في صالح أحد وليس في صالح الوطن.
عملياً مررنا جميعاً بمرحلة صعبة، وكلنا تضرر منها بطريقة أو بأخرى، ومن الطبيعي في ظروف كهذه أن يقع ضحايا وتحدث تجاوزات، ولكن الدعوة إلى الانتقام لن تؤدي إلا إلى مزيد من المآسي، فمن سيتم الانتقام منه سيسعى هو أيضاً والمحسوبون عليه ومناصروه إلى الانتقام ممن انتقم منه، وهذا يعني أن المشكلة ستظل مستمرة ولن تجد لها نهاية.
الذين يدعون إلى الانتقام يؤكدون قصر نظرهم وضيق أفقهم وعدم إدراكهم للكثير من الأمور، ذلك أن المشكلة التي لا نزال نعاني منها لابد أن نوجد لها نهاية، وهذا يتم بتعاون الجميع وبتقديم التنازلات وبنسيان تلك المرحلة وليس بالدعوة إلى الانتقام وممارسته.
مهم في حالة كهذه أن نعرف رأي الجمعيات السياسية وما إذا كانت تؤيد مثل هذه الدعوات أو ترفضها، وأن نعرف في حالة رفضها لها الدور الذي تقوم به لمنع متبنيها من الاستمرار في دعوة الناس إليها، ومهم كذلك معرفة رأي رجال الدين والمراجع العظام في هذه المسألة، فهؤلاء وهؤلاء هم من ينبغي أن يضعوا حدا لمثل هذه الدعوة ويبينوا لمتبنيها والمتحمسين لها المضار التي يمكن أن تنتج عنها. إن الآية الكريمة التي جاء فيها «إنا من المجرمين منتقمون»، والتي حاولوا توظيفها لتعزيز وجهة نظرهم لا تعطيهم الحق في الانتقام، فهذا حق خاص بالله سبحانه وتعالى، فهو المنتقم، ولا تعني أبداً الرخصة لكل من اعتبر نفسه مظلوماً بالانتقام، والعودة إلى الآية كاملة في سورة السجدة تبين أن موضوعها مختلف. تقول الآية «ومن أظلم مِمن ذكر بِآياتِ ربهِ ثم أعرض عنها إِنا مِن المجرِمِين منتقِمون»، وجاء في تفسير ابن كثير «يخبر تعالى عن عدله وكرمه أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً، أي خارجاً عن طاعة ربه، مكذباً رسل اللّه»، أي «لا أظلم ممن ذكره اللّه بآياته وبينها له ووضحها ثم بعد ذلك تركها وجحدها وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها»، و«إياكم والإعراض عن ذكر اللّه فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز، ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك «إنا من المجرمين منتقمون»، أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام»، وهو ما يؤكد أن توظيف الآية في موضوع الدعوة إلى الانتقام خطأ وأنه تم من قبل أناس لا يفهمون في تفسير القرآن.
البلاد لا تحتمل مثل هذه الدعوات، ليس لأنها غير ممكنة فقط، ولكن لأنها تزيد من تعقيد المشكلة، لهذا فإن على كل جهة وكل فرد يعرف الأحوال جيداً أن يتحرك لمنع مثل هذه الدعوات ويضع حدا للداعين إليها وأن يحثهم بدلاً عن هذا على الاستفادة من الأجواء الروحانية التي تميز شهر رمضان الذي سيحل بعد أيام والذي تصفو فيه النفوس وتكون أقرب إلى التسامح وتقبل الآخر.