إن تحقيق العدالة بمختلف وجوهها ولا سيما الاجتماعية منها، من الموضوعات التي أولاها الدين الإسلامي اهتماماً استثنائياً وخاصاً، وقد أفرد القرآن الكريم والسنة النبوية العطرة، مساحات كبيرة لهذا الموضوع، وأكد عليها بصورة غير عادية، منبهاً بذلك لأهميته.
قال سبحانه وتعالى في محكم كتابه الكريم: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون»، «سورة النحل: 90»، وقال تعالى في آية أخرى: «فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل من الله من كتاب وأمرت لأعدل بينكم»، «سورة الشورى: 15»، وقال عزوجل في آية أخرى: «إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل»، «النساء: 58»، كما نرى في سياق هذه الآيات الكريمة وآيات أخرى عديدة، هناك تأكيد غير عادي على موضوع «العدل»، وعدم التغاضي أو التجاهل عنه مهما جرى، بمعنى أنه من الضرورات المؤكدة التي لا جدال فيها، خصوصاً إذا ما علمنا بأن «العدل»من أسماء الله الحسنى، وأن لذلك الكثير من المعاني والعبر لكل مسلم ومسلمة.
أما في السنة النبوية العطرة، فقد ورد في الأحاديث عن الرسول الأكرم «ص»، «إن المقسطين عند الله على منابر من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا»، وقال «ص» أيضاً: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: الإمام العادل ...».
هذا التأكيد على موضوع العدل كما ورد في هذه الأحاديث، يبين ويؤكد مرة أخرى بأن الإسلام يقوم برمته على دعامة العدل، وأن الكثير ممن انجذب للإسلام وانشرح قلبه لمفاهيمه وقيمه، إنما بسبب العدالة التي تميز بها، فهو لم يفاضل بين الناس وحتى لم يكن بإمكان خليفة المسلمين أن يعتبر نفسه أفضلهم وإنما كان يلتمس منهم إن وجدوا به اعوجاجاً أن يقوموه، بل وأن ذروة وقمة اهتمام الدين الإسلامي بموضوع العدل وإحقاقه بين الناس، أن رسول الله «ص»، قد قال في واحد من أشهر أحاديثه: «لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها». وإذا ما علمنا بأن فاطمة كانت وكما وصفها النبي الكريم في الحديث الشريف: «فاطمة بضعة مني»، لكنها لو سرقت فإنها لا تستثنى من تنفيذ العدالة بحقها، حينئذ يتضح لنا وبصورة جلية مدى إصرار الإسلام على تطبيق العدل وعدم وجود أي استثناء بين المسلمين بهذا الصدد.
وإذا ما تصفحنا التاريخ فإننا سنجد صفحات مشرقة تروى بأحرف من ذهب مجد الإسلام وعظمته في هذا المجال. وبهذا الخصوص فقد أورد ابن هشام: «عن أحد أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»، يطلب منه القصاص لأنه يعرف أنه عادل، وكيف لا يكون كذلك وهو يدعو إليه، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عدل صفوف أصحابه يوم بدر، وكان في يده قدح يعدل به وكان «سواد بن غزية»، خارجاً من الصف، فطعن بطنه بالقدح. وقال: استوِ يا سواد. فقال سواد: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل قال: فأقدني. فكشف الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على بطنه، وقال: «استقد»، «اقتص» يا سواد. ثم قام سواد وقبل بطن المصطفى عليه الصلاة والسلام حباً له حتى يكون آخر العهد أن يمس جلده جلد النبي صلى الله عليه وآله و سلم. وهنا نجد أن الرسول بنفسه ومن فرط اهتمامه الاستثنائي بإحقاق العدل فإنه، وهو الرسول، قد طلب من أحد المسلمين أن يقتص منه.
والحقيقة أن هناك الكثير من الأحداث والوقائع وعبر التاريخ الإسلامي، توضح مكانة ومنزلة العدل بالنسبة للدين الإسلامي، وحتى أن قضية اختيار القاضي من جانب الخلفاء المسلمين، كانت واحدة من أكثر القضايا حساسية وأهمية بالنسبة إليهم، فكانوا يقومون بالتمحيص والتدقيق إلى أبعد حد كي يتأكدوا من أنه سيقيم العدل بين الناس كما أمر الله سبحانه وتعالى.
* الأمين العام للمجلس
الإسلامي العربي في لبنان