الضمانات التي يتمتع بها المورد أو المقاول المتعاقد مع الإدارة
كان الفقه والقضاء - فيما يتعلق بالعقود الإدارية - ينظر إلى المتعاقد مع الإدارة بدرجة دونية بالنسبة للحقوق والالتزامات التعاقدية. وكانت تلك النظرة تقوم على أساس المحافظة على دوام سير المرفق العام بانتظام وباطراد.
ومن هنا كان الطرف المتعاقد مع الإدارة في مركز أدنى بكثير من المركز القانوني للجهة الإدارية المتعاقدة، خاصة ما تتمتع به هذه الأخيرة من سلطة التنفيذ المباشر لاقتضاء ما تراه حقاً لها، سواء بتعديل العقد أو بإنهائه أو بتوقيع الجزاءات على المتعاقد معها. وأمام هذه السلطات الممنوحة لجهة الإدارة تتضاءل حقوق المتعاقد وامتيازاته، حيث لا يملك سوى تنفيذ الالتزام أو اللجوء للقاضي لاقتضاء التعويض المناسب عن إخلال الجهة الإدارية بالتزاماتها أو بطلب فسخ العقد.
وكل تلك السلطات المقررة لجهة الإدارة تعتبر خروجاً على قاعدة العقد شريعة المتعاقدين وتتماشى مع مبدأ قابلية المرافق العامة للتغيير والتبديل.
وقد تنبه المشرع - نتيجة التجارب العملية - إلى خطورة ذلك الوضع ومدى تأثيره – بصورة أو بأخرى - على حسن سير وانتظام المرافق العامة فقام بمنح المتعاقد مع الإدارة بعضاً من الحقوق والامتيازات تساعده على قيامه بتنفيذ التزاماته بأريحية وبما يضمن حصوله على حقوقه في الوقت المحدد لها، وذلك على غرار ما اشتمل عليه قانون المناقصات والمزايدات المصري الصادر بالقانون رقم «89» لسنة 1998 ولائحته التنفيذية، وتعديلاتهما العديدة، وكذلك المرسوم بقانون رقم «36» لسنة 2002 بشأن تنظيم المناقصات والمزايدات والمشتريات والمبيعات الحكومية البحريني، ولائحته التنفيذية، وما أجريت عليه من تعديلات مؤخراً بموجب القانون رقم «1» ورقم «2» لسنة 2007، والقانون رقم «29» لسنة 2010.
وقد أرسى القضاء الإداري - سواء الفرنسي أو المصري - قواعد نظام مستقل وقائم بذاته يحكم عقود الإدارة، ويتفق مع طبيعة روابط القانون العام واحتياجات المرافق العامة، ومقتضيات حسن سيرها بانتظام وباطراد. وفي ذات الوقت عمل ذات القضاء على تحقيق التوازن والموائمة بين هدف الإدارة من إبرامها عقودها الإدارية وبين المصالح الفردية للمتعاقدين معها.
ولاشك أن المتعاقد مع الإدارة يحرص من خلال تعاقده معها على حصوله على الربح المعقول من العقد المبرم بينهما، ومحاولته إيجاد ركائز في هذا العقد يستطيع من خلالها الحصول على حقه بيسر وسهولة ودون تعقيدات، وفي ذات الوقت حصوله على ما يضمن له استمرار تأدية التزاماته في جو من التعاون وحسن النية حتى الانتهاء من تنفيذ العقد، متعاوناً مع الإدارة ومعاضداً لها في تحقيق النفع العام.
وسنعرض الركائز التي يستطيع من خلالها المورد أو المقاول المتعاقد مع الإدارة الحصول على حقوقه، أو محاولة التقريب بين مركز جهة الإدارة ومركز المتعاقد معها من خلال إبراز الضمانات التي يمكن أن يتمتع بها هذا الأخير تجاه الإدارة وذلك من خلال الآتي:
- التصور الفلسفي لعدم المساواة بين جهة الإدارة والمورد أو المقاول المتعاقد معها.
- التصور الفلسفي والقانوني للضمانات التي يتمتع بها المتعاقد مع الإدارة.
- صور الضمانات التي يتمتع بها المتعاقد مع الإدارة.
أولاً: التصور الفلسفي لعدم المساواة بين جهة الإدارة والمورد أو المقاول المتعاقد معها
بداية لابد من الإشارة إلى أن تفسير عدم المساواة بين المتعاقد وبين جهة الإدارة يكمن في التنازع بين مبدأين رئيسيين، الطبيعة الذاتية للعقد الإداري ومبدأ الرضائية.
فالجهة الإدارية تستمد امتيازاتها وسلطاتها المتولدة عن العقد الإداري من خلال تطبيق مبدأ الطبيعة الذاتية للعقد الإداري، أما المتعاقد مع الإدارة فإنه يستمد حقوقه من خلال القوة الملزمة للعقد.
وتحت مظلة الطبيعة الذاتية للعقد الإداري، أمكن خلق القواعد الضابطة للمرفق العام، وما يترتب على تطبيق هذه القواعد من آثار. فعلى سبيل المثال إن قاعدة سير المرفق العام بانتظام وباطراد - وهي إحدى القواعد الضابطة للمرفق العام - هي التي سمحت لجهة الإدارة بتوقيع الجزاءات على المتعاقد معها في حالة إخلاله بتنفيذ العقد، وذلك دون حاجة للجوء إلى القضاء، وهي التي تبرر لجهة الإدارة الشراء على حساب المورد المقصر في عقود التوريد، أو التنفيذ على حساب المقاول المقصر في عقود الأشغال العامة، كما إن قاعدة قابلية المرفق العام للتغيير والتبديل هي التي منحت للإدارة وبإرادتها المنفردة سلطة تعديل عقودها الإدارية بالزيادة أو النقصان في حدود ووفق ضوابط معينة.
ومن خلال الطبيعة الذاتية للعقد الإداري أيضاً أمكن تبرير عدم المساواة بين طرفي العقد الإداري؛ فالمتعاقد مع الإدارة يبتغي المصلحة الشخصية له، في حين تبتغي الإدارة تحقيق المصلحة العامة، ومن ثم فإن عدم المساواة بين طرفي العقد الإداري مرده دائماً الصالح العام التي تسعى الإدارة إلى تحقيقه....يتبع.