قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون» (البقرة 183). بيّن الله تعالى أن المقصد من الصيام هو إيصال العبد إلى درجة التقوى، الحساسية في قلب العبد المؤمن، الذي يترك أثره على جوارحه، فقلبه عامر بحبّ الله وخشيته، والسكينة سكبت في قلب العبد ونال حظه من الصفاء الذي لامس طهره قلبه حين تلبسه بالصيام، فأصبحت التقوى ملازمة له وهو ملازم لها، نال المنزلة المقربة من الله بالتقوى، لا بالجوع والعطش، لذا بيّن صلوات الله و سلامه عليه، خطورة الخطأ في فهم دور الجوع و العطش وجعله مطلبا في ذاته، بدل اعتباره وسيلة لصفاء النفس ونقائه، لذا يقول عليه الصلاة و السلام: «من لم يدع قول الزور والعمل به، والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه و شرابه» رواه البخاري.
إنّ الشعائر التعبدية من صلاة و زكاة وصيام وحج، تهدف إلى مقصد سام من تعظيم شعائر الله «ذلك و من يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب» الحج آية 32، ولكنها مع هذا المقصد العظيم، تهدف إلى مقاصد أخرى على رأسها تهذيب النفس الإنسانية، لذا قال تعالى : «لن ينال الله لحومها و لا دمائها و لكن يناله التقوى منكم..» الحج 37، و لذا قال تعالى: «اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون» العنكبوت 45، فإن المقصد منها تحقق الخشوع الذي بدوره يهذب النفس و يرتقي بها.
فلم يرتبط الصوم في ديننا الحنيف بالشدة و أذى النفس: «... يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر..» البقرة 185، إنّما ارتبط بتعظيم الشعائر من منطلق تعظيمه سبحانه وتعالى، وارتبط بتحقيق مقصد السموّ بالنفس الإنسانية، والتحليق بها إلى الآفاق السامية، التي لا تحلق فيها إلا القلوب الطاهرة النقية، المتزينة بالأخلاق العالية، المقتدية بمحمد صلى الله عليه وآله وسلّم، الذي وصفه ربّه تعالى بقوله: «وإنّك لعلى خلق عظيم» القلم آية 4، لذا كان الصوم فاعلا في تهذيب النفس وتنقيتها من الشوائب التي علقت بها طوال العام، فكانت وقاية، و كانت جُنّة «والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب و لا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله، فليقل: إنّي صائم، إنّي صائم، إنّي صائم» رواه أحمد ومسلم. فكما أنّ الصوم جًنّة لصاحبه، ومانع من الآثام وقبيح الكلام، والجهل و المشاجرة، كذلك حافظٌ للإنسان من دواعي الإغواء و الشهوة، وحافظ للبصر والفرج، لذا أرشد صلوات الله وسلامه عليه الشباب إلى الزواج، وبيّن أنّ غير المقتدر يتحصّن بالصوم الذي يهذب نفسه و أحاسيسه، فقال عليه الصلاة و السلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وِجاء» رواه البخاري.