الحمد لله رب العالمين أنْ بلّغنا بكرمه سبحانه شهر رمضان المبارك، وأمدَّ في أعمارنا حتى تنسّمنا عبق لياليه العطرة وأيامه المباركة.
وها هي العشرُ الأخير من رمضان تهبُّ علينا نسماتها، فاحمد الله تعالى أيها الصائم أن بلّغك شهر الغفران، ومنَّ عليك بإدراك العشر الأواخر منه.
وعلى كل واحد منا أن يترجم شكره هذا إلى همة عباديّة، بأن يمكث في بيت من بيوت الله بنيّة الاعتكاف، وأن يعتكف قلبُه قبل بدنه، محبةً لله تبارك وتعالى، وشوقاً للخلوة معه سبحانه.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا دخل العشر الأخير من رمضان جدَّ وشدَّ المئزر وأحيا الليل وأيقظ أهله، والتزم المكوث في المسجد اعتكافاً وإقبالاً على الله عز وجل.
فيا أخي الصائم أوصيك أن تحوّل شكرك واغتباطك بهذا الموسم المبارك إلى استقامة على منهج الله وتوبة صادقة إليه، وإقلاع عن الذنوب والمعاصي، وانتصار على النفس الميالة إلى الدِّعة والشهوة والغفلة.
والنفسُ كالطفلِ إِنْ تهملهُ شبَّ على حبِّ الرِّضاعِ وإنْ تفطمه يَنفطِمِ
انتصر على نفسك لأن هذا الشهر المبارك شهر الانتصارات العظيمة في التاريخ؛ ففي رمضان انتصر المسلمون في بدر وفي فتح مكة، كما انتصروا في حطين وعين جالوت ومعركة الزلاقة وغيرها، أحداث رمضانية كبيرة لا يمكن أن تنسى من ذاكرة المسلم الصائم. نعم انتصر أسلافنا على نفوسهم فأنزل الله عليهم نصره وتأييده.
وأنت يا أخي المسلم متى ما جاهدتَ نفسك، وأقبلت على ربك، واغتنمت موسم الغفران وفرصة العشر الأواخر، فإن الله سبحانه حتماً سيوفقك
للتوبة النصوح، وسيعينك على الإقلاع عن المعاصي والتبرؤ من السيئات؟!
يقول تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنهدينَّهم سُبُلَنا، وإن اللهَ لمعَ المحسنين)
ويقول ابن الجوزي:
اعلم أنك في ميدان سباق، والأوقات تنتهب، فما فات ما فات إلا بالغفلة والكسل، وما بقي ما بقي إلا بالجد والعمل، وإن الهمة لتغلي في الصدور غليان الماء في القدور!
واجعل من أعظم أهدافك في العشر الأخير تحري ليلة القدر فيا لفوز من بلّغه الله هذه الليلة التي هي أعظم من ألف شهر من العبادات والطاعات، كما قال جل شأنه: (ليلةُ القَدْرِ خَيرٌ مِنْ ألفِ شهر).
ولهذا تقول أمُّنا عائشةُ رضي الله عنها وأرضاها:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: «تحرَّوْا ليلةَ القَدْرِ في العَشرِ الأواخرِ مِنْ رَمَضَان» متفق عليه.
وفقني الله وإياك لأفضل الطاعات والقُربات، ووقاني وإياك من الكبائر والسيئات، وأدخلنا برحمته جنة عرضها الأرض والسموات.