الكمال والقوة الاعتبارية للدين الإسلامي تكمن في القدرة الديناميكية على الحوار والجدل، وطرح الحجة تلو الحجة، والتي تأتي من سعة أفقه واتسامه بروح المعاصرة المستندة إلى أصالة تستند على جذور وأسس راسخة، ولذلك فإن الإسلام قد منح دائماً مساحة كبيرة لحرية النقاش والجدال والمحاججة، بل وحتى جعل التشكك والاستدلال والتيقن أساسا للاعتقاد، بمعنى أنه لا يطالب باعتقاد شكلي ولفظي.
الكثير من الآيات القرآنية الكريمة، تعطي أمثلة حية وفريدة من نوعها على المساحة المتاحة لحرية الاعتقاد والتفكير، وهو بذلك يؤكد على احترام حرية العقيدة وسعيه من أجل أن تكون مستندة على أسس ومعطيات فكرية وتحليلية واستقرائية وليست اعتباطية وارتجالية، وإن الآية الكريمة رقم 256 من سورة البقرة تقول «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي»، و كذلك الآية الكريمة رقم 99 من سورة يونس تقول «أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين»، والآية الكريمة رقم 56 من سورة القصص تقول «إنك لا تهدي من أحببت»، والآية الكريمة رقم 103 من سورة يوسف تقول «وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين»، هذه الآيات ومن خلال التأمل والتمعن فيها بدقة، نجد أنها ترسم خطاً بيانياً لحرية العقيدة، ذلك أن حلاوة وقوة الاعتقاد تأتي من الاقتناع الراسخ به، وكما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع»: «نوم على يقين خير من صلاة في شك»، ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد شدد في أكثر من آية على عدم الإكراه في دفع الناس للاعتقاد بالإسلام كما أن الإعتقاد لا يمكن أن يتم من خلال رغبتك بأن يكون فلان على عقيدتك ورؤيتك لمجرد أنك تتودد إليه.
الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله سلم، قد أكد أيضاً على هذا المسار والسياق القرآني الواضح في قضية الاعتقاد وقد جاء في الحديث الشريف: «وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا أبو سلمة، حدثنا حماد بن سلمة، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن أبي راشد قال: كان رسول قيصر جاء إلي قال: كتب معي قيصر إلى رسول الله - صلى الله عليه وآله سلم - كتاباً، فأتيته فدفعت الكتاب، فوضعه في حجره، ثم قال: «ممن الرجل؟»، قلت: من تنوخ. قال: «هل لك في دين أبيك إبراهيم الحنيفية؟ «قلت: إني رسول قوم، وعلى دينهم حتى أرجع إليهم. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وآله سلم - ونظر إلى أصحابه وقال: «إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء»، وإنه من الواضح أنه صلى الله عليه وآله سلم، يؤكد على النهج القرآني ويشدد عليه كي يترسخ أكثر فأكثر لدى المسلمين حتى لا ينظروا ويتعاملوا مع هذه القضية الهامة والحساسة جداً بصورة وطريقة مغايرة لما جاء في القرآن الكريم.
الإسلام الذي جاء ليكرم الإنسان ويرفع من شأنه ومن منزلته، فإنه وكما نرى قد راعى كثيراً الجانب الاعتقادي لديه لأن لهذا الجانب أهم وظيفة ومهمة في تكوين الشخصية الاعتبارية للإنسان، والإسلام يريد الإنسان أن يكون على ثقة وقناعة راسخة بما يعتقد به وليس أن يكون ذلك على أسس واعتبارات مهزوزة ووقتية غير راسخة.
من هنا، فإن الجماعات والتنظيمات المتطرفة - من كل المذاهب - التي تسعى بكل جهدها من أجل أن توحي بأن الإسلام دين استبدادي يفرض الأمور عنوة وقسراً على الناس رغم أنفهم، لا تتفق مع الإسلام ومبادئه وقيمه السمحة التي تدعو للحرية والانفتاح والتضحية والإيثار، وأن أمة كريمة معطاء يصفها القرآن الكريم «ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة»، لا يمكن أبداً أن تكون أمة مستبدة ومضطهدة ومقصية للآخرين.
البناء الفكري والاعتقادي للإنسان، يعتبر الأساس والأصل الذي يرتكز عليه الإنسان في انطلاقته وتعامله وتعاطيه مع الواقع الموضوع من كل النواحي وعلى كافة الأصعدة، وقطعاً فإن هذا البناء لو كان قسرياً أو انعدمت فيه الإرادة والاختيار الإنساني، فإنه لن يكون رصيناً ومتسماً بالرزانة والاتزان والحبكة اللازمة وإنما وعلى العكس من ذلك يمكن أن يكون في حالة هشة وغير متماسكة، والإنسان في مثل هذه الحالة لن يكون عنصراً مفيداً بالنسبة للمجتمع لأنه سيتسم بالقلق وعدم الاستقرار، وبطبيعة الحال فإن أي إنسان لم يكن لديه معتقد وفكر ما يؤمن به من أعماق ذاته، فإنه سيكون قلقاً وغير واثق من نفسه ومعتمداً عليها.
هذه الحقيقة المهمة التي أوردناها، هي في الواقع أحد الأسرار الكامنة خلف التعامل الرحب والاستثنائي للإسلام في تسامحه مع قضية الاعتقاد، لأنه يريد جميع المكونات الإنسانية حتى تلك التي لا تؤمن بالإسلام أن يكون لها محتوى إنساني بالمستوى المطلوب الذي يمنحها القدرة على العمل والتعامل والتواصل والتأثير والتأثر مع الواقع الموضوعي، أما الرؤى والأفكار الضيقة والمتطرفة التي ينسبها المتطرفون للإسلام فإنها في الحقيقة لا تمثل إلا من يدعو إليها لأن «وهنا أهم ما في الأمر»، الإسلام براء تماماً من هكذا أفكار ومعتقدات متطرفة تصادر التسامح والتعايش السلمي والمحبة والإخاء.
* الأمين العام للمجلس الإسلامي العربي في لبنان