هذا بالضبط ما تفعله كل الشخصيات التي عملت طوال عقود وسنوات على «تطويع» إرادة الناس، وعلى «سلب» رأيهم، وعلى تحويلهم إلى «أتباع» مخلصين مطيعين، حتى لو أمروهم بالتضحية بأبنائهم لأجلهم، لفعلوا، باعتبار أنها «أوامر» رجل دين وعالم وولي فقيه.
سيدنا إبراهيم عليه السلام اعتراه القلق حينما طلب منه رب العالمين التضحية بابنه سيدنا إسماعيل، وفعل ما أُمر به من رب العباد بالأخص حينما حثه ولده على تطبيق أوامر الرب، وضعوا ألف خط أحمر تحت «أوامر الرب».
لكن للأسف، هناك من البشر من وصل في مستوى التذلل لبشر آخرين، تحت مبررات المنزلة الدينية، التي حولوها لمنزلة «إلهية»، وبسبب استغلال «المنبر الديني» في «الاشتغال السياسي»، حتى أنه مستعد للتضحية بنفسه وبأبنائه وبمستقبلهم، لا من أجل «الله» خالقه، بل من أجل بشر، لو قلبت المعادلة وطلب منه التضحية لأجل الناس وأتباعه والجموع التي صدقته وركضت وراءه، لما «سخي» بذرة من نفسه، ولترك الناس وقال «نفسي نفسي».
بالضبط هذا هو الحاصل في عدة بقاع في العالم، وصادر تحديداً من العناصر والقيادات التي صنعتها الجمهورية الإيرانية ونظام «ولاية الفقيه»، وهي حالة يتم فيها تطبيق أعراف قيادة البشر وتطويع إراداتهم باستخدام «ورقة» الدين والمذهب، إذ «آية الله» من حقه فعل ما يريد دون أن يناقشه أحد، ومن حقه أن يأخذ الأموال حتى من الفقراء، ومن حقه توجيه البشر واللعب فيهم إن أراد، لا أحد يكلمه ولا أحد يحاججه.
هؤلاء يصورون أنفسهم للناس «حينما يرتدون عباءة الدين» بأنهم أولياء الله الصالحين على الأرض، في وقت يمكن للناس وبسهولة معرفة «كيف يكون ولي الله الصالح على الأرض»، فقط من خلال الرجوع للتاريخ وقراءة سيرة رسولنا الكريم صلوات الله عليه.
محمد بن عبدالله خاتم الأنبياء والرسل، وأحب البشر إلى الله سبحانه، لم يطلق على نفسه صفات «تأليهية» حتى يسيطر على البشر، وحتى يطوع إراداتهم باسم الدين، وهو رسول الله وهو أعظم البشر. لم يطلق على نفسه مسميات «روح الله» و»آية الله»، بل قال للناس «لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى»، وأوضح لهم بأن البشر سواسية أمام الله، ولم يجبر أحداً على اتباعه ولم يغصبه، حتى أن المولى عز وجل قال له: «إنك لن تهدي من أحببت».
رغم هذه العظمة، ورغم القدسية المتفردة لخاتم الأنبياء والمرسلين، ورغم مكانته، إلا أن الرسول الذي نحاول جميعنا الاقتداء به، والتمثل بأخلاقه، ولن نصل لربع ربعها إطلاقاً، لم يختبئ خلف الناس، ولم يحاول التضحية بهم لأجل سلامته، ولم يجعلهم سدوداً له يصدون عنه الأذى أو المصير، محمد بن عبدالله لم يستغل البشر يوماً، فما بالنا اليوم بـ»تجار دين» يستغلون الناس ويتاجرون حتى بأرواحهم، لأجل أن يضمنوا سلامتهم؟!
للمولى عز وجل الحق علينا في شكره وحمده على كثير من النعم، وأولها نعمة العقل، وحرية التفكير، والحق في اتخاذ قراراتنا الخاصة بناء على قناعاتنا، دون تجاوز حدود الله، ودون الشرك به، خاصة من أنواع الشرك التي يقع فيها الإنسان دونما إدراك مثل تعظيم البشر وإيصالهم لمرحلة العبودية نتيجة التقديس الديني، والله هذه نعمة على الإنسان أن يشكر ربه عليها، لأن من يفتقدها نراه تحول وكأنه شخص يعيش الحياة لأجل شخص آخر، نراه شخصا ًيمكن أن يموت لا في سبيل الله، بل يموت لأجل شخص آخر، يمكن أن يضحي بما يملك وبعائلته حتى يؤمن حياة شخص، هو المفروض عليه أن يحمي الناس لا أن يضللهم ويتخذهم ستاراً حامياً عنه.
من يشوه صورة الدين هم المتاجرون به، من يحولونه إلى سلعة يبيعون ويشترون فيها، من يصورون للناس بأنهم لو خالفوا توجيهات هؤلاء البشر، فإنهم خرجوا عن الملة وكفروا بالرب.
عصور الجاهلية الأولى تعاد وتتكرر اليوم، وهنا أتحدث تحديداً عمن بات يسيء للدين بشكل «ألعن» من إساءات الجماعات المتطرفة والإرهابية التي تتركب جرائمها وتمضي وتنتهي، لأن النوع الأول ليس لعمله المستغل للدين سقف زمني محدود أو مؤقت، بل ما يقوم به مبني على «تغييب عقول» و»سلب إرادات» و»استعباد» للناس باسم الدين.
كل من يمارس هذا النوع من الاستغلال للدين حتى يستفيد شخصياً، هو شخص لا ينبغي الاستمرار في تصديقه والمضي وراءه، هو لا يمكنه أن يضحي لأجل الناس، لكنه يطالبهم بالتضحية لأجله، هؤلاء لا يصدقهم إلا «المغيب عقلياً»، لأن الإنسان السوي لا يقبل إطلاقاً أن يتم استغفاله في أمور دنياه، فما بالكم بدينه وعلاقته بخالقه وربه؟!