الذين اعتقدوا أن الشعارات يمكن أن تطغى على الواقعية في سياسات الدول، اكتشفوا خطأهم مع التحولات السريعة التي باشرها الرئيس التركي أردوغان هذا الأسبوع، وتراجع فيها عن تهديدات ووعود ومواقف عنترية لم يجف حبر بعضها بعد، فتصالح مع إسرائيل واعتذر لروسيا وبدأ مهادنة مصر، في تأكيد بأن مصالح بلده تفوق أهمية بكثير تحالفات نسجها مع هذه الجماعة او تلك، وخصوصاً مع «الإخوان المسلمين» وتفريعاتهم، لأنها لم تعد تتماشى مع المعطيات المستجدة من حوله. تفاصيل اتفاق إعادة تطبيع العلاقات مع إسرائيل ليست هي المقصد التركي بذاتها، فالتوصل إليها لم يكن يتطلب ست سنوات من القطيعة السياسية، ذلك أن العلاقات الاقتصادية لم تتأثر حقيقة بالخلاف الدبلوماسي. وهي إن نُظر إليها من زاوية الإيجابيات والسلبيات بالنسبة إلى تركيا لبدت عادية وهزيلة ولا شيء استثنائياً فيها، مع أن إسرائيل رأت فيها «مكاسب اقتصادية هائلة».
أما حركة «حماس» في غزة، الطرف الثالث المعني بالاتفاق، ولو في شكل غير مباشر، فالحصار لن يرفع عنها، لكن وضعها الصعب يجعلها تجد في أي «خروقات» له متنفساً يطيل عمر قبضتها على القطاع، وليس أمامها خيار سوى الترحيب.
فتركيا التي أدركت عجزها عن تحقيق اي انجاز في الملف السوري، تعرف أن إسرائيل تمتلك الورقة الأقوى فيه، لأنها ترفض في شكل قاطع تغيير نظام الأسد، ولأنها المدخل إلى عقل الأمريكيين وقلبهم. ومع اقتراب التغيير في البيت الأبيض، كان لابد من «إعادة المياه الى مجاريها» معها، مع ترجيح استبدالها هذه المرة بالغاز الإسرائيلي المتدفق من أعماق البحر المتوسط.
وبالطبع بدأ التغيير في الداخل، فدفع رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو الثمن، ليفتدي «السلطان» الذي بدا كأنه يصحح ما خربه منظّر حزب «العدالة والتنمية» منذ بزوغ نجمه. وفي المقلب الثاني من التطبيع مع إسرائيل، تقف روسيا التي تمسك بالقرار العسكري والسياسي في سوريا بتنسيق وثيق مع الدولة العبرية، على استعداد لتوجيه ضربة قاصمة للنفوذ التركي التاريخي في منطقة حلب التي تقع الآن ضمن «المحمية» الروسية، فيما يواصل الأكراد ضغوطهم برعاية أمريكية لتحقيق الاتصال بين الجيبين الكرديين في شمال سوريا، بما يضمن «تحييد» تركيا تماماً وإغلاق حدودها مع الجارة الجنوبية والحيلولة دون تهديد الدويلة المزمعة الممتدة عبر الساحل إلى دمشق.
ويعرف أردوغان أن هذا التقاطع الروسي الإسرائيلي في سوريا يصب في النهاية في «طاحونة» واشنطن التي تدعمه وتعول على دور أكبر لموسكو في إيجاد تسوية تتيح وقف الحرب السورية، وهي مستعدة في سبيل ذلك لتقديم التنازلات المطلوبة. وقد حاول قبل ذلك «فركشة» التفاهم بين الأمريكيين والروس عندما أسقط الطائرة الروسية، فلاقى توبيخ الطرفين وانتقامهما.
صحيح أن التسوية السورية تبدو أبعد حالياً، لكن المعركة المحتدمة لتفكيك جغرافية «داعش» وإضعافه، ثم كسر علانيته ودفعه إلى السرية مثل «القاعدة» من قبله، قد لا تستغرق طويلاً، ويحتاج كل الأطراف، وبينهم الأتراك، أن يكونوا جاهزين لقطف ثمار «الانتصار» على التنظيم، كي لا تترك للمعارضين السوريين والكرد وحدهم، وليشاركوا في الترتيب السياسي الذي سيليه.
صفق الأمريكيون للتغيير في السلوك التركي، لأن أردوغان فهم أخيراً أنه لا يستطيع معاندة استراتيجيتهم في المنطقة، وأن خياره الوحيد يجب أن يكون تسلق القطار الذي يرسمون سكته مع الروس، ليمر أولاً بتحجيم «داعش»، ثم بتطعيم نظام دمشق بتشكيلات من «المعارضة الجديدة» لإبقائه على قيد الحياة، وأخيراً تقسيم سوريا إلى دويلات أو «محطات» بحمايات دولية.
* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية