سأتوقف هنا عند جزئية من ضمن مقابلة أجريت لوزير التربية والتعليم الأخ الدكتور ماجد النعيمي الأسبوع الماضي، جزئية أراها تكشف وجود حاجة ملحة لدينا إن أردنا بالفعل الوصول لمستوى «النجاعة» في بناء الجيل القادم، أو ما يحلو للبعض تسميته هذه الأيام «صناعة شباب المستقبل».الأمور الدقيقة في عملية بناء المجتمعات لا تأتي بالتمني، لكن تأتي بالتخطيط السليم والعمل المدروس، وهنا سأشاطر وزارة التربية الفكرة، علنا نصل لتوافق بشأن ضرورة وضع خطة تحرك وطنية لتعديل الوضع فيما يتعلق بتوجيه الشباب، أو لربما هناك وضع قائم، لكن بالنظر للمعطيات على الأرض، يتضح بأنه بحاجة لتطوير وتحديث جذري.في رد على سؤال للزميلة «أخبار الخليج» من ضمن مقابلة مطولة، أوضح الدكتور النعيمي بأن الطلبة يتوزعون في التخصصات المختلفة التي تقدمها مؤسسات التعليم العالي في المملكة، بحسب إحصائية العام الدراسي 2016/2015 في التخصصات التالية:- الأعمال والإدارة والقانون، بنسبة 50%.- تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات، بنسبة 24%.- العلوم الاجتماعية والصحة والإعلام، بنسبة 10%.- الصحة والرفاه، بنسبة 10%.- الفنون والعلوم الإنسانية، بنسبة 3%.- الهندسة والتصنيع والبناء، بنسبة 3%.هذه النسبة بتحليلها تمكننا بسهولة من معرفة واقع الحال في مجتمع الأعمال اليوم بالنسبة للبحرين، وقياساً على الأرقام المعنية بآخر عامين، يمكن لنا بسهولة توقع الأرقام السابقة حتى بدون الرجوع للإحصائيات. تحليل النسب يقول إن مجتمع الأعمال لدينا يتجه في غالبية مخرجاته للعمل «المكتبي» أو «الإداري»، في حين أن مخرجات العمل «المهني» و«العملي» في تراجع مخيف.نسبة الـ3% من الدارسين في مجالات الهندسة والتصنيع والبناء، نسبة مقلقة لا يتوجب قراءتها والمرور عليها مرور الكرام، إذ هي بحد ذاتها تمثل إجابة لعدة تساؤلات، بعضها معني حتى بأسباب زيادة العمالة الأجنبية في البحرين، ووصول عدد الوافدين للعمل لدينا لأكثر من ضعف عدد السكان، في المقابل تكدس النسب وتكرارها في تخصصات أخرى يعني فائضاً في الخريجين، يعني وجود بطالة بالضرورة، وبعضها معني بمستوى العمل المتوقع في البلاد في إطار مساعي النهوض والتنمية المستدامة. في بلد يسعى للتطور ولصناعة شباب يقود المستقبل، لا يمكن أبداً الاكتفاء بنسب ضئيلة من المقبلين على التخصصات المهنية، والاكتفاء بتخصصات أغلبها إدارية أو أكاديمية وغيرها، مع الاحترام الشديد لها، والتنبيه للحاجة الماسة إليها، لكن الجانب المهني من الضرورة أن يطغى البحرينيون فيه كنسبة وأرقام، من الضروري أن يكون للبحرين جيش من الشباب المهندسين والمطورين والمعماريين.هل المشكلة لدينا هي غياب التوجيه بالنسبة للدراسات الجامعية والعليا، بحيث يكون كل شخص متخرج من الدراسة الثانوية قد تم توجيهه بشكل صحيح، فيما يتعلق بتخصصه في الجامعة؟! بل قبل ذلك، هل كان هناك توجيه أصلاً بشأن تخصص هذا الطالب في دراسته الثانوية، باعتبار أن هناك تخصصات وتشعبات في هذه المرحلة الدراسية، على أيامنا «علمي، أدبي، صناعي، تجاري» مثلاً؟! ولست هنا أصعب الموضوع وأصوره مستحيلاً، لكن هل كان لهذا الطالب متابعة منذ أن كان في المرحلة الابتدائية لمعرفة مواهبه وميوله وقدراته، ولتحديد ماذا يمكن له أن يبدع فيه، وما هي المجالات التي هو فيها أقل مهارة ومستوى؟!والله لسنا نتحدث عن مستحيلات هنا، بل نتحدث عن علم طبق في الغرب وأتى بثمار رائعة، بل مكن المجتمعات والدول من الاستثمار في أبنائها، ووضعهم في أفضل المناصب، ومنحهم أفضل الرواتب، وحول تلك الدول إلى مالكة «ثروات بشرية» عبر تنوع شبابها الكفوئين على كافة التخصصات والمجالات، بحيث لم تصبح الحاجة لديهم لاستقطاب الأجنبي بمستوى «الضرورة» التي نراها لدينا. في ألمانيا على سبيل المثال، وهي أبلغ مثال على الوصول لمستوى المثالية في الاهتمام بالنشء وتحديد المسارات العلمية والعملية، هناك عميلة متابعة دقيقة «ومرهقة»، لكنها لازمة بالنسبة للألمان، متابعة بالغة الاهتمام بالطلبة، منذ صغرهم، بحيث يتم تحديد قدراتهم، ومتابعة تطورهم في بعض المجالات، وذلك مروراً بالمراحل الدراسية، حتى إن وصلوا إلى لحظة تحديد خياراتهم في شأن التخصصات المهنية لا تترك لهم الخيارات هكذا «على المزاج»، فلان يريد الطب فليدخل الطب، وعلان أمه تريده طياراً فليدرس الطيران، وفلتان والده يريده محامياً فليدرس القانون!العملية هناك لا تتم بـ«التمني» بل تتم وفق آلية علمية لا تهاون فيها، فقياس القدرات والمهارات يساعد على تحديد المجالات التي تفرض على الطالب دخولها. ففي ألمانيا هم لا يتعاملون مع الوظائف المهنية وفق النظرة الدونية السائدة لدينا وللأسف في مجتمعاتنا العربية.نحن في مجتمعاتنا نزدري المهن العملية ونقلل من شأن العاملين المهنيين، فنرى «السباك» أو «اللحام» أو «الميكانيكي» أو «عامل البناء» بنظرة قاصرة، ونعتبر أنها مهن دونية، فالأفضل أن أكون طبيباً «رغم كون الطبيب ذا مهنة عملية» أو طياراً «نفس الحال»، بل النجاح أن أكون وزيراً أو مديراً أو صاحب وظيفة مكتبية!لو اعتمدت ألمانيا ومثلها اليابان وكثير من الدول الغربية هذه «النظرة القاصرة» التي تسود مجتمعاتنا، لما وجدنا ألمانياً أو يابانياً يعمل في هذه الوظائف، لعانوا من البطالة، ولاستقطبوا العمالة من الخارج كحالنا للأسف. الحلول الذكية تكمن في الاستفادة من التجارب الذكية.وللحديث بقية غداً.
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90