أبدأ من حيث ختمت أمس، بالتأكيد على مقولتنا أن «الحلول الذكية تكمن في الاستفادة من التجارب الذكية»، وذلك في معرض الحديث عن نسب الطلبة الموزعين في التخصصات الجامعية المختلفة في البحرين خلال العامين الماضيين، وكيف أن ما نسبته 3 % فقط من الطلبة يقبلون على دراسة الهندسة والتصنيع والبناء، رغم أنها من التخصصات «الحيوية» و»الهامة» والتي تشكل «عصباً رئيسياً» لعملية التطوير في أي بلد.
تطرقت لتجربة دول متقدمة مثل ألمانيا واليابان وغيرها، دول تنظر للعمل المهني نظرة احترام وتقدير، ترى في التخصصات المهنية «احترافاً» بل «علماً» لا يقل عن العلوم الأخرى، لذلك في تلك الدول رواتب العاملين في المهن والحرف اليدوية مثل التصنيع والبناء وحتى الهندسة كمهندسين ومعماريين رواتبهم مرتفعة وعالية، وطبعاً تدخل في نفس النمط من التقدير المادي وظائف أخرى فيها حرفية دقيقة كالطب والطيران وغيرها.
الفكرة في أن هذه الدول لا تترك «الحبل على الغارب» في شأن توزيع نشئها وجيلها الشاب على التخصصات الدراسية، حتى جامعاتها لا تقبل إسطوانة «بفلوسي» التي نستخدمها في مجتمعاتنا العربية كدلالة على أننا بالمادة يمكننا حتى إدخال «الفاشل» عملياً في دراسة الطب، بل هناك لا تهاون في مثل هذه الأمور، طالما أن المخرجات الدراسية – أي الخريجيين – سيكونون جزءاً من مجتمع العمل في البلد سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، الفكرة بأنهم يعتبرون «أرقاماً» في مسيرة التنمية والتطوير، ولدى الألمان واليابان بالأخص لا يقبل بأن تكون هذه الأرقام «صفرية» أو «غير فاعلة».
لذلك فإن المتابعة للطلبة في مراحلهم الدراسية مهمة لديهم، لأن عليها تبنى عملية «التوجيه والإرشاد الأكاديمي» لهم، حينما يقترب تخرجهم ويفكرون في التخصص، سواء في المرحلة الثانوية والأهم في الجامعية.
الدولة تراقب وترصد، وعليه تقوم الجهات المعنية بفرز مخرجات التعليم بناء على القدرات والمستويات، وتتم عملية التصنيف بحيث يعرف كل شخص بأنه سينفع في هذا التخصص أو ذاك، ويتم توجيهه على هذا الأساس. فمن يمتلك تفوقاً حرفياً وفي الأعمال المهنية، يوجه لهذا المجال، ومن لديه تفوق في خصائص التفكير والابتكار ويميل للتخطيط الإستراتيجي يوجه لمجال ينمي قدراته في القيادة والتفكير الإبداعي، ونفس الحال بالنسبة للمتفوقين في المواد العلمية سواء مجالات الأحياء والبشريات أو الرياضيات، كل يوجه للمجال الذي يتقنه، لا المجال الذي «يحلم» أو «يحلم به والداه».
لذلك فإن حتى الأعمال التي تعتمد على المهنية في تلك المجتمعات رواتبها ليست ضئيلة ولا متدنية، إذ شاغلوها أصلاً من حملة الشهادات والمؤهلات، شاغلوها تتكفل الدولة بتوفير كافة الظروف المهنية المناسبة لهم، لأن وجودهم هنا بناء على توجيه الدولة وإرشادها بعد عمليات الفرز والتصنيف وتحديد القدرات.
هذه فكرة ننقلها هنا للمعنيين، خاصة وأننا تابعنا في السنوات الأخيرة تكدس أعداد من الخريجين في دائرة «البطالة» بسبب كثرة الخريجين من تخصصات لا طلب عليها، ولا سوق عمل متاح لها، بل متضخم، في ظل وجود فرص عمل في مجالات مهنية أخرى أو تخصصات متقدمة شاغلوها في الواقع العملي لدينا إما عمالة أجنبية أو أجانب يتم استقطابهم بسبب خبرتهم أو مؤهلاتهم أو أمور أخرى.
اليوم على الدولة متابعة طلبتها في المدارس الحكومية وحتى الخاصة، عليها توجيههم وإرشادهم واكتشاف قدراتهم، عليها صناعة جيل مهني قوي، عبر توجيهه في القنوات الصحيحة التي يمكن أن يبدع فيها، والتي تحتاجه فيها الدولة بشكل أساسي ويكون بديلاً للأجنبي الذي يشغل مكان المواطن، وطبعاً عملية الارتقاء بالوضع المعني بالمهن المختلفة وتصحيح أوضاع بعضها من ناحية المقابل المادي والتطوير الوظيفي عبر التنظيم الإداري، كلها أمور لازمة.
لسنا نقلل من الجهود الحالية، لكننا نكرر أخيراً بأن النسب المذكورة للتخصصات تكشف أموراً مقلقة، إزاءها نفكر ونحاول ونتابع التجارب الناجحة ونتعلم، علنا نغير واقعنا للأفضل.