كثيراً ما يتردد على مسمعي، «إن كنتم تطالبون بحقوق الإنسان، فلتذهب حقوق الإنسان إلى الجحيم، فلم نتحصل منذ ورودها إلا على الشقاء والحروب».
رويداً.. فقد شرع الإسلام حقوق الإنسان منذ أربعة عشر قرناً في شمول وعمق، وأحاطها بضمانات كافية لحمايتها، وصاغ مجتمعه على أصول ومبادئ تمكن هذه الحقوق وتدعمها. فحقوق الإنسان ليست منحة من ملك أو حاكم، أو آلية تصدر بموجب قرار من سلطة أو منظمة دولية، وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمح بالاعتداء عليها ولا يجوز التنازل عنها.
لكن من المضحك المبكي أن تعيش في الظلام، واختراع المصباح موجود. فلا تعطي – أيها الأب – سلاحاً لابنك الذي لم يتجاوز العشر سنوات، راسماً على جبهته ملامح الحقد والكراهية مطالباً من خلاله بحرية التعبير المنصوص عليها في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية. وأرجوك أيها الموظف في إدارة تخليص المعاملات المستعجلة وغير المستعجلة، لا تغلق الباب أمام من يحتاجك لتخليص شؤونه قبل ساعتين من انتهاء عملك بحجة أن الدولة مجبورة لكفالة حق العمل المنصوص عليه في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في أية حال كنت فيها. ويا أيتها الأم ذات القلب الحنون.. لا تفرغي بركان ضغوطاتك اللاسع على أجسام أبنائك الناعمة.. ثم تعتذرين بعد أن كونت جيلاً خائفاً مضطرباً مستندة إلى حريتك الخاصة بتربية أبنائك. ويا أيها العابس والمناضل في أروقة حقوق الإنسان العالمية، الباحث عن الزلات والعقبات.. ابتسم، فأنت في النهاية مسلم. والابتسامة صدقة. ويا أيتها الجارة النبيلة لا تعاملي جارتك التي من غير دينك بأبشع وأردى تصرفات القسر والأذى لغيرتك الشديدة على ضحايا المسلمين في كل مكان.
قال تعالى: «والله يحب المتطهرين». فالطهارة لا تقتصر على الطهارة الحسية كإزالة الأنجاس ورفع الأحداث، بل تمتد لتشمل الطهارة المعنوية، كالتنزه من الشرك، والأخلاق الرذيلة. فالدين الإسلامي كله براء من مفردات الكراهية، والتعصب، والازدراء والتعنت والقسوة، وتنبع التربية الإسلامية في تعاملها مع النفس البشرية من منطلق الحب الإيماني، وإشاعة المودة والرحمة والإخلاص والقضاء على التناحر والتخاصم بين أفراد المجتمع.
وقد أشارت ديباجة دستور مملكة البحرين إلى ذلك حيث بينت « بأن الإسلام فيه صلاح الدنيا والآخرة، وأنه لا يعني الجمود ولا التعصب، وإنما يقررفي صراحة تامة أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها، وأن القرآن الكريم لم يفرط في شيء» . كما أشار الدستور في مادته الثانية على أن « دين الدولة الإسلام، والشريعة الإسلامية مصدر رئيسي للتشريع. بالإضافة إلى نص المادة (4) من الدستور ذاته والتي أشارت إلى أن: «العدل أساس الحكم، والتعاون والتراحم صلات وثقى بين المواطنين، والحرية والمساواة والأمن والطمأنينة والعلم والتضامن الاجتماعي وتكافؤ الفرص بين المواطنين دعامات للمجتمع تكفلها الدولة».
وعليه فإن حقوق الإنسان جاءت مترجمة لمفردات الشريعة الإسلامية السمحاء. ففلسفة الإسلام العامة انطوت على تبنٍّ كامل لحقوق الإنسان من خلال احترام النوع الإنساني، وتكريمه الواضح لبني الإنسان، ومساواته بين البشر جميعاً في أصل النشأة والخلق، وربطه قيمة الفرد بالعمل الذي يقوم به. أو بالأحرى أن الدين من منظور إسلامي قد وُجد لخدمة الإنسان، وقد تجلى ذلك من نظرة الإسلام إلى الحلال والحرام، حيث اعتبر الأصل في الأشياء الإباحة، فأسقط ما عرف في بعض الحضارات بالخطيئة الأصلية، وربط التحريم بالضرر الذي ينجم عن العمل، وأعطى الإنسان حرية الاختيار والتصرف وأوجد لها الضوابط. وقد دل على ذلك من خلال قرنه الحكمة التي هي ثمرة الإبداع الإنساني، بالكتاب الذي هو الرسالة الإلهية في عدة آيات قرآنية، مثل قوله «ويعلمهم الكتاب والحكمة»، وجعلهما جزءاً من عالم الإنسان من دون أن يفصل بينهما أو يفضل أحدهما على الآخر. وقد كرس الإسلام تبنيه لحق الإنسان في الحياة في الآية القرآنية «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً»، ونادى الإسلام بحق الحرية في الآية القرآنية «الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة»، وبين رسول الأمة عليه الصلاة والسلام أن الناس كلهم في القيمة الإنسانية سواء حيث قال «لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى»، كما كرس الإسلام تبنيه لحقوق الإنسان بإقراره بحرية الاعتقاد «لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي»، وبتمكين الإنسان من ممارستها من خلال تحريره من الخوف على «العمر» و«الرزق» حتى لا يستسلم للتهديد والابتزاز بإخراجهما من دائرة القرار الإنساني «إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين»، وربط الدعوة إليه بالإقناع وبالطرق السلمية «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن» و«لستَ عليهم بمسيطر»، ومن خلال تحريم التنازل عن هذه الحقوق ومعاقبة المظلوم لقبوله بالظلم والاستضعاف «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيمَ كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض، قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها، فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً»، وحق العامل وواجبه «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه». وحرية التفكير والاعتقاد والتعبير وضوابطها «ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم، كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم» «لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً»، والحق في الخصوصية «ولا تجسسوا».
ولذلك، فإني أستميحكم عذراً، فحقوق الإنسان هي الإسلام، وبالتالي يتوجب علينا احترامها وعدم التأويل عليها – غير أن تبني الإسلام لحقوق الإنسان لا يعني بأي حال قبوله بكل ما ورد في الإعلانات والمواثيق الدولية أو الإقليمية من مواقف أو تصورات، ذلك أن ما صدر إلى الآن من إعلانات أو مواثيق لا يعكس رؤى جماعية، بل إن صدورها مقترن بلحظة سياسية تعبر عن وجهة نظر واحدة أو بعادات وتقاليد تخرج من مضمون سمو الشريعة الإسلامية.
وبالتالي فإن المصطلحات الحقوقية كثيرة ودقيقة.. وبعضها غامض، لا تستخدموها بصرخات مدوية مزعجة تنسلخ من مضمونها.. لا تتمسكوا بقشرتها الظاهرة وتتركوا صفارها الناطع، لا نريد أن نكون ممن شملتهم ديباجة الميثاق التأسيسي لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة الصادر في عام 1945 التي أشارت بأنه «.. كان جهل الشعوب بعضها لبعض مصدر الريبة والشك بين الأمم على مر التاريخ وسبب تحول خلافاتها إلى حروب في كثير من الأحيان».