لقب جديد تستحقه القارة التي ساهمت بالنصيب الأكبر من صنع التاريخ الحديث. و «أوروبا الحائرة» (العجوز سابقاً) تبدو متمزقة بين متعارضات حوَّلت الاتحاد الأوروبي من حلم طموح إلى «كابوس». والكابوس لا يقتصر على الأزمة اليونانية بكلفتها الاقتصادية الكبيرة، بل تشمل أشباح الخطر الروسي الذي تعددت ملفاته من لعبة الغاز المؤلمة إلى المواجهة الساخنة - الباردة في الشرق بتداعيتها في القِرم والنطاق الواسع لمشروع الدرع الصاروخية. أوروبا التي لم تملك الجرأة في تسعينات القرن الماضي لإطفاء النار في البلقان لولا التدخل الأطلسي، تجد نفسها مضطرة للتدخل العسكري خارج حدود القارة خصوصاً في أفريقيا. والقارة التي بقيت منذ الحرب العالمية الثانية لم تستطع الاستغناء عن مظلته النووية، تحاول بناء ذراع عسكرية أوروبية، وهي تعلم أن كلفتها أكبر من قدرات اقتصادتها المنهكة، ويرى كثيرون أن تبايناً سيتسع نطاقه بين أوروبا والحلف بعد خروج بريطانيا، التي كانت دائماً، الحليف الأنغلوسكوني الأوروبي الذي يساهم بدور الجسر بين شرق الأطلسي وغربه. وجنوب المتوسط وشرقه تواجه أوروبا حالة من الاضطراب الواسع تلقي بظلال قاتمة على مستقبل أمن القارة ومصالحها. والبدائل القليلة تجعل صانع القرار السياسي دائماً عاجزاً عن تحقيق اختراق، إذ يظل عندئذٍ أسير الممكنات التي تؤجل الحلول الحقيقية، وترغمه على قبول حلول جزئية قد تتسبب هي نفسها بمزيدٍ من تفاقم المشكلات. وعلى مستوى الديموغرافيا ما هو أكبر من الحيرة. فالهرم السكاني الذي يتسم في عدد غير قليل من دول القارة، ضربته الشيخوخة على نحو ترك آثاراً سلبية كبيرة، ولما كان قبول المهاجرين هو الحل، فإن المزيد من المهاجرين كان يعني في حالات أوروبية كثيرة صعود اليمين القومي داعياً إلى التخلص من الأجانب ولتأكيد «السيادة القومية» التي تبدو الوحدة الأوروبية نفسها عدواناً عليها.
وبدل أن تكون أوروبا الموحدة سبباً في توجه عام نحو التوحيد، ساهمت وتساهم – في شكل غير مباشر – في تفتيت بعض الكيانات السياسية القائمة (كما هي الحال في رغبة اسكتلندا في الانفصال عن بريطانيا حتى تبقى داخل الاتحاد الأوروبي)وفي أماكن أخرى من القارة – كما هي الحال في إسبانيا مثلاً – يبدو التفكك – لا الوحدة – مساراً محتملاً. وعلى مستوى القيم ساهم المشروع في جعل الكثير من المسكوت عنه أكثر حضوراً، فمقولة «القيم الأوروبية» تمثل – في الحقيقة – ترجمة سياسية للقيم الفرنسية مطعمة بتأثير ألماني، بينما بعض دول أوروبا خاضت معركة سياسية - ثقافية كبيرة عند كتابة مسودة الدستور الأوروبي حول مسيحية أوروبا «مقابل علمانيتها»، وقضايا أخرى تساهم من دون شك في تغذية الشعور بالحيرة الأوروبية المتصاعدة.
•نقلاً عن «الحياة»