بقي رجال الدين في البلاد الإسلامية قروناً محصنين ضد النقد، فلرجل الدين في هذه المجتمعات تقدير واحترام ومكانة لا يحظى بها غيرهم إلا قليلاً، وقد يقدم في المجالس حتى على ذوي المناصب الكبيرة. وحتى وقت قريب لم يكن وارداً أبداً توجيه انتقاد من أي جهة أو فرد لأي رجل دين مهما صغر شأنه، فمن استقرت العمامة على رأسه صار تلقائياً فوق النقد. لكن الحال اليوم تغير ولم يعد أحد يتردد عن توجيه النقد لرجل الدين مهما علت مكانته وذاع صيته، الأمر الذي يدعو إلى التساؤل عن سبب هذا التحول الدراماتيكي المثير.
منطقاً وشرعاً لا يمكن انتقاد رجل الدين في أمور تخص الدين فهذا تخصصه وهو عالم به، ولو حصل فإن الأمر لا يتجاوز النقاش بغية إبداء وجهة نظر أو تصحيح خطأ أو تدارك فهم خاطئ. هذا يعني أن رجل الدين يظل بعيداً عن النقد طالماً ظل في المساحة المخصصة له، ويعني أيضاً أنه فور خروجه من تلك المساحة ودخوله في مساحات أخرى وخصوصاً تلك المخصصة للسياسيين فإن الطبيعي هو تعرضه للنقد، ذلك أن آراءه وتفسيراته في المساحات الأخرى والسياسية منها تحديداً لا علاقة لها بالدين، أي أنها ليست مقدسة، وطالما أنها كذلك فالأكيد هو أنه لا يوجد ما يحول بينه وبين تعرضه للنقد.
هنا مثال؛ لو أن رجل الدين أعطى رأياً في الاقتصاد، والمعنيون بالاقتصاد وجدوا أن رأيه غير صحيح أو غير متزن أو غير واقعي أو ضعيف أو لا يستند إلى أدلة أو يعبر عن جهل، فالأكيد والطبيعي والمنطقي هو أن يردوا عليه وينتقدوه، والأكيد هو أن العمامة لن تحول بينهم وبين مناقشته ومحاججته وحتى انتقاده بقسوة لو كان رأيه يؤثر سلباً على الحالة الاقتصادية ويضر بمصالح الناس والوطن، والأمر نفسه في مجال السياسة. وطالما أن رجل الدين قبل على نفسه الدخول في هذه المساحة لذا فإن الطبيعي هو أن يتعرض للنقد والنقد القاسي، وصار من حق كل إنسان مناقشته والرد عليه، فهذه المساحة تتيح للجميع ما لا يتاح لهم لو لم يغادر رجل الدين المساحة الدينية، ولأن انتقادهم لرجل الدين هنا ليس انتقاداً لشخصه ولا للدين ولكن لآرائه ومواقفه التي يمكن أن تؤثر سلباً على المجتمع أو الدولة أو على جماعة بعينها لذا لا يتردد أحد عن القيام بذلك، فالأمر هنا خارج المقدس.
دخول رجل الدين في المساحة المخصصة للسياسيين هو بمثابة إعلان صريح عن قبوله للنقد وتفهمه بأنه بهذا يفقد بعضاً من تلك «الحصانة» التي يوفرها المجتمع للعمامة، ولولا أن المراجع من السنة والشيعة دخلوا في المساحة المخصصة للسياسيين لما تمكن أحد من توجيه أي انتقاد لهم أو مناقشتهم أو محاججتهم أو رفض آرائهم ومواقفهم، فهم مراجع في الدين، والأمر نفسه ينطبق على كل رجل دين في كل مكان، كبيراً كان أم صغيراً، قرر أن يشارك في العمل السياسي. وهكذا فإن ما يجري أيضاً على رجل الدين «المتسيس» من أحكام وعقوبات في ظروف معينة لا ينالها لأنه ديني ولكن لأنه سياسي.
هذا يقود إلى الجدل الذي لا ينتهي في موضوع فصل الدين عن السياسة، لكن مع الإقرار بصعوبة الفصل بين المساحتين إلا أن دخول رجل الدين في العمل السياسي بشكل مباشر يعني أنه يقبل بما يترتب على ذلك من أمور أولها تعرضه للنقد، ففي هذه الحالة يفقد الكثير من الحصانة المجتمعية التي يتمتع بها طالما لم يغادر مساحته الطبيعية، فلا يعود خطاً أحمر.