أذكر أن أول مقال رثائي كتبته كان في 1999، وكان لإنسان عظيم ملك شغاف قلوبنا منذ فتحت عيوننا على الدنيا، بل كان رثاءً بحق رجل تربع في وجداننا وأفئدتنا، وبكيناه يومها بكل مرارة ولوعة، كان بحق صاحب العظمة أميرنا الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة قلب البحرين النابض وحبيب شعبها المخلص طيب الله ثراه، ووالد ملكنا المفدى حفظه الله ورعاه.
منذ ذلك اليوم وأنا أدعو ألا تضطرني المواقف لرثاء عزيز وغالٍ، فالكتابة في هذا الجانب فيها من الشجن والعواطف ما يثقل الكلمات ويتعب الفؤاد، فهي سطور تتحدث عن أحباب رحلوا عنا، ولم تبقَ لدينا منهم سوى ذكرياتهم الجميلة.
لكنها الدنيا التي تحمل بين طياتها الحياة والموت، وهو حكم القدر الذي يحتم على الإنسان أن يصل لمرحلة لا تمثل له النهاية، فصحيح أنها نهاية حياته، لكنها بداية حياة البرزخ والقرب من المولى عز وجل.
قبل ثلاثة أيام فقدت عائلتنا «نورها» الذي كان يميزها، والذي كان يربط جميع أفراد عائلتها بالحب والطيبة، رحلت امرأة كنا نجمع على كونها أقوى امرأة في عموم عائلتنا الممتدة والمتشعبة من أبناء عوائل الشيخ والسيد والعباسي والكوهجي، لا قوة بمعنى البأس والشدة، بل قوة الحب وسمو الأخلاق ورقي الطيبة وحب البشر.
رحلت عنا «نور» زوجة خالي العزيز، وجدة أحفاد عدة، وأبناء وبنات كثر بررة، وعميدة سيدات العائلة، وشقيقة رجال من نوع خاص كالدكتور طيب النفس رفيع الأخلاق مصطفى السيد أمين عام المؤسسة الخيرية الملكية وأشقائه منصور وعبدالرحيم.
نور التي كانت نوراً في حياتنا، كانت لي بمثابة الأم الحانية، ولنا جميعاً مصدراً للسعادة وحب الخير ورمزاً للترابط الأسري. خيرها كان يغطينا منذ كنا صغاراً حتى كبرنا وصرنا رجالاً وامتدت لذريتنا. نور التي كانت على لسان كل من عرفها، لطيبتها وكرمها وحبها للناس ولابتسامتها الدائمة التي لم تفارقها حتى لحظة ملاقاة ربها.
أذكر بأنني في الفترة التي قضيتها مغترباً في الخارج، حين كنت أعود للبلد في زيارة خاطفة، كنت لا أجلس في بيت والدي، بل مكاني هناك في الرفاع وفي قلب بيت خالي العزيز وعند الغالية نور، حتى والدتي كانت تستغرب رغم فرحها من قوة هذا الارتباط.
قبلة أطبعها صباحاً ومساء على رأسها، أجلس عند قدميها، وما أحلى الجلوس عند قدمي إنسانة هي قطعة حقيقية من الجنة، تحدثني عن أيام الماضي الجميل وكيف عاشوها هم وكيف ربونا ونحن صغار، تضحك وتفرح وتطلب منك أن تعيش سعيداً دائماً، لسانها يلهج بذكر الله وتدعوه بأن يسهل لكل منا دربه، ويبارك له في عمله. وفي كل العائلات، في أقاصي الأرض ودانيها، تحصل الخلافات، وتحدث المناوشات والنزاعات، إلا في بيتها الذي يشع بنور المحبة. أبداً لم أجد أبناء وبنات خالي العشرة يوماً ليسوا على قلب واحد، كانوا يعيشون كشخص واحد، قلوبهم على بعض، يدهم في يد بعض، وامتد الحب هذا ليكون حال كل قريب من هذا البيت الطيب، أبناء عمومتي، أخوالي وأشقائي وأصهار العائلة من البحرين والإمارات وكل قريب لنا من السعودية أيضاً. لذا كان وقع الأمر علينا عصيباً جللاً، لذا لم تحتمل نفوسنا ومشاعرنا فقدها ورحيلها، رغم أنها رحلت لتكون قريبة ممن هو أفضل منا جميعاً، رحلت لخالقنا الذي كان حانياً على نور، منحها عمراً جميلاً ربت فيه أبناءها وأبناء شقيقات زوجها وأحفادها وأولادهم وغطت بفضلها كثيراً من الناس، رحلت بعد أن طهرها الخالق البارئ من كل ذنوبها، بعد مرض أتعب جسدها لكنه لم يتعب روحها، مرض أتعب نفوسنا نحن، لكنه لم يجعلها تذرف دمعة عين، بل كانت ابتسامتها هي السائدة وكلمة «الحمد لله» هي المترددة على لسانها الذي لم ينطق يوماً إلا بكل خير وطيب. عانت نور قوية العزيمة صلبة الروح من مرض في كليتها، تضاعفت معه مشاكلها الصحية حتى سلم الأطباء قبل خمسة أعوام بأنه لم تبقَ لها سوى أيام معدودات، لكنها بفضل الله أعجزتهم، عادت لتقول بأنها باقية لأجل عائلتها التي تذوب حباً فيها. جراحة قلب مفتوح لم تعجز نور، فقدت بصرها لم تعد ترانا، فعوضتها بلمسات يدها الناعمة تتبين معالم وجوهنا فتردد أسماءنا بابتسامتها التي تراها فتجبرك أن تقول بأن الحمد لله في هذه الدنيا خير طالما وجد فيها أهل الخير. حنينها امتد حتى الطيور التي تزور حديقتها يومياً، كل طائر يحط فيها يعلم بأنه سيجد فيها رزقاً من حبوب لا تنتهي وضعتها هناك نور. حلمت بها الأربعاء، تبتسم كعادتها، تذكرت إصرارها حضور زفافي قبل أربعة أعوام رغم جلوسها على كرسي متحرك، انتهى حلمي بوفاتها، فبادرت عصر الخميس لزيارتها في المستشفى العسكري الذي دخلته قبل أسبوع لمضاعفات مفاجئة، وجدتها رغم الأجهزة وكمامة الأكسجين تتحدث باسمة، تكلم أبناءها ولا تمل، وكأنها تودعهم الوداع الأخير وتوصيهم على والدهم خالي العزيز الرجل العصامي الرائع الذي قضت معه أكثر من خمسة عقود، تعلمنا منهما كيف يكون الحب الصادق الطاهر، وكيف تكون العشرة والوفاء، وكيف يترجم ذلك على تربية الأبناء، إذ ذريتهم كل فرد منهم يشار له بالبنان، من سماحة ورفعة أخلاق وطيبة وخدمة للآخرين بلا مقابل. فجر يوم الجمعة المباركة وقبيل آذان الفجر في الثلث الأخير من الليل، حين ينزل المولى عز وجل بعظمته وكبريائه للسماء الدنيا، اختار ربي أن يأخذ منا «نورنا» وأن يرتفع بروحها معه ليبدلها حياة أفضل من حياتها في جناته بإذنه. نطقت الشهادة بيسر قبل دقائق من رحيلها، وفارقتنا ووجهها الجميل مرتسمة عليه أروع ابتساماتها.
أكتب سطوري وهي مبللة بدموعي، لم أفقد قريبة فقط، بل امراة رائعة اعتبرتني دائماً ابناً لها، يعرف الجميع مكانتي في قلبها ومكانتها في قلبي.
في حياتنا من الاستحالة أن ننسى بشراً أحببناهم حتى النخاع، ستظل ذكرى نور هي النور المضيء لعائلتنا، قصصها ومواقفها البلسم الذي يداوي الجروح ويبدلها بابتسامة مهما حاولنا، قسماً بأنها لن تحاكي ابتسامة نور.
رحمك الله يا قطعة من الجنة، وجعل قدرك مع نبينا الكريم ومع عباد الله الصالحين.