الحقيقة التي ينبغي أن ندركها جميعاً هي أن الاستمرار في الوضع الحالي استنزاف للوطن وتعميق لجراحه وظلم له ما بعده ظلم، وأنه لا رابح من وضع كهذا سوى من لا يريدون لنا ولوطننا الخير، ويجب أن ندرك أيضاً أن السبيل إلى قطع الطريق على أولئك هو إفساح المجال للعقل كي يقود المرحلة، والعقل لا يكون في العناد ولا في الإصرار على أمور معينة من دون أي اعتبار للظروف ولطبيعة المرحلة والمتغيرات المتسارعة في المنطقة وإنما هو في العمل على نزع الفتيل وإيجاد مساحة تكفي لعدم تضرر الآتي كما تضرر الفائت .
لنتصور أن أمامنا دزينة من أعواد الثقاب وضعت إلى جانب بعضها البعض ، ولنتصور أن الأعواد الثلاثة الأولى منها مشتعلة ، ترى كيف السبيل لمنع امتداد النار إلى بقية الأعواد ؟ منطقاً ستحترق كل الأعواد لو اكتفينا بالمشاهدة ، ومنطقاً فإن الاحتراق سيكون سريعاً لأنه يوجد في رأس كل عود من تلك الأعواد مادة قابلة للاشتعال، ولكن ِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِمنطقاً أيضاً يمكننا بتغليب العقل منع انتقال الحريق من الأعواد الثلاثة إلى بقية الأعواد .
في الشكل المتصور يتم إبعاد العود التالي للأعواد المشتعلة بسحبه إلى الأسفل قليلاً بغية توفير مساحة تكفي لمنع انتقال النار من الأعواد الثلاثة المشتعلة إلى الأعواد الأخرى . هذا بالضبط هو ما علينا أن نقوم به في هذه المرحلة، فما احترق احترق وانتهى ويمكن العمل على إعادة بنائه لاحقاً، والشطارة في منع انتقال الحريق إلى ما لم يحترق بعد ، أما السبيل فهو إعمال العقل ، وهذا يكون بإيجاد مساحة كافية بين ما يشتعل وما لم يشتعل بعد بالتراجع قليلاً وخفض سقف المطالب. عدا هذا فإن النار ستنتقل إلى كل شيء وسينتهي كل شيء سريعاً ونتحمل جميعاً وزر ابتعادنا عن العقل واستمرارنِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِِا في طريق العناد ومحاولة فرض الرأي الواحد على الجميع . أما من الذي ينبغي عليه أن يسحب العود لإيجاد المساحة المعينة على منع انتقال النار من الأعواد الثلاثة الأولى إلى بقية أعواد الثقاب فأمر لن يصعب الاتفاق عليه طالما قررنا أن نفسح المجال للعقل كي يعمل وينتشلنا مما صرنا فيه ، ولو أن المنطقي هو أن يقوم بذلك الطرف الذي أعلن أن لديه مطالب.
اليوم لا خيار أمامنا سوى المضي في هذا الطريق ، فهو الطريق الذي يعيننا على منع انتقال النار إلى بقية أعواد الثقاب كي لا نخسرها كلها ، ولأن الوقت يمضي سريعاً، ولأن مضيه يزيد مشكلتنا تعقيداً ويهدد بانتقال النار إلى بقية الأعواد ، لذا فإن على من ينبغي عليه البدء بسحب العود الرابع التعجيل بهذا الأمر كي تدخل الحكومة معه ويتعاون الطرفان على إبعاده وحماية الأعواد التالية له من النار .
واقعاً لا يمكن لذلك البعض الذي يعتقد بسبب قلة خبرته وحداثة عهده بالسياسة أن النار لن تمسه وأن عناده سيوصله إلى ما يريد، لذا فإن المهمة بأكملها تقع على «المعارضة» التي هي اليوم تقتصر على الجمعيات السياسية اليسارية والتي هي في كل الأحوال الأكثر قدرة على القيام بهذه المهمة بسبب ما تمتلكه من نظرة واقعية وخبرة تنظيمية يعتد بها . ولكون مثل هذا العمل يحتاج إلى تهيئة جيدة ، ولأن التهيئة في هذه الحالة تتمثل في إقناع ذلك البعض بأن يتوقف عن القيام بأعمال التخريب ونشر الفوضى التي عرف بها لذا فإن السؤال الذي يطرح هنا بقوة هو هل تستطيع هذه الجمعيات أن تقوم بمثل هذه التهيئة لتتمكن من ثم من القيام بالدور التاريخي المطلوب منها؟