ما يؤاخذ على غالبية مجتمعات الدول العربية وحكوماتها أيضاً هو اهتمامهم جميعاً بالقضايا السياسية بشكل مفرط ومطلق. هذا الاهتمام الذي نال نصيب الأسد مقابل بقية الملفات والقضايا الأخرى جعل كل فرد من أفراد مجتمعاتنا يتحدثون ويتدخلون وينظرون ويفتون في السياسة، مما أضعف بقية الجوانب المهمة جداً -للدولة والمجتمع- التي لم تنل نصيبها من العطاء والاهتمام، فالسياسة أصبحت أكسجين الناس وقوت يومهم داخل الوطن العربي. من الممكن أن يتحدث المواطن العربي في السياسة ومن حقه أن يعرف عنها الكثير، لكن أن تكون شغله الشاغل أو تأخذ جل جهده وكل اهتماماته فهنا تكمن «المصيبة». فالذين يشتغلون بالسياسة في العالم العربي أكثر بكثير ممن يشتغلون في قضايا التنمية والصناعة والتعليم والصحة والفن والرياضة وتأمين المستقبل وتحديث الحاضر، وذلك لأنهم أضاعوا البوصلة وفقدوا ترتيب أولوياتهم بشكل واضح حتى وجدوا أنفسهم في مستنقعات سياسية لن يفيقوا منها إلا بعد فوات الأوان.
أيها العربي، يكفيك أن تحيط وعيك ببعض المعلومات عن الوضع السياسي في وطنك ومحيطك، لكن أن تترك وتهمل بقية الأولويات والملفات الكبرى فهذه من الأخطاء الاستراتيجية القاتلة التي وقعت فيها كما وقعت فيها الكثير من الشعوب العربية خلال القرن الـ 20. فأمام العرب اليوم الكثير من القضايا التي تتعلق بالتنمية المستدامة وتقديم المستقبل وتأمين الغد والدخول في شراكات حضارية واقتصادية مع دول العالم المتقدم، لكنها أصبحت كلها مهملة بسبب اشتغلنا وانشغلنا بالسياسة ولعناتها التي لم تقدم لنا سوى المزيد من الخيبات والتقهقر نحو الماضي.
إن الذي أعطى بعض الدول أو بعض الجماعات السياسية حجماً يفوق أضعاف حجمها هو أننا سلطنا اهتماماتنا وعدساتنا عليها بشكل مفرط، وعلى إثر هذا السلوك المتخلف أهملنا بقية الملفات المهمة الأخرى التي تعني بصناعة الإنسان والأوطان.
في دولة بحجم إندونيسيا وبتعداد سكانها الذي قارب 300 مليون نسمة، لا يوجد هناك من يتحدث في السياسة، فالناس مشغولون ببناء وطنهم الأم،-رجالهم ونساؤهم وكبارهم وصغارهم- فلا وقت لديهم يضيعونه حتى لمعرفة اسم رئيسهم، فالجميع يعملون لأجل عيون وطنهم، وهذا ما حدث قبل ذلك في ماليزيا. هذا الوعي الشعبي والرسمي لهذه الشعوب والدول الفقيرة ربما يعطينا الدرس بأن نسلط الضوء على قضايا وملفات أكبر وأهم بكثير من السياسة، فالسياسة أخذت نصيبها من الاهتمام العربي وأكثر، فكانت على حساب مستقبل شبابنا وأوطاننا. ولهذا نحن ننصح من يشتغلون بالسياسة أن يفرزوا شرائح المجتمع في عملية هذا «الانشغال»، خصوصاً الشباب الصغار الذين لم يصلوا لسن التكليف السياسي، فلا يجوز لك أيها السياسي العربي أن تخرج الصغار من مدارسهم ورميهم في الشارع لأجل تيارك أو حزبك، كما لا يحق لك تطويع إرادة الناس البسطاء نحوك وليس نحو الوطن والمستقبل لتنال المزيد من الشهرة والسمعة لأشبع أنانيتك. يكفيكم أيها السياسيون العرب عبثاً بالإنسان والأوطان، فقدامنا مستقبل لم نر بدايته بعد بسببكم فكيف لنا استشراف نهايته، «أليس منكم رجل رشيد»؟