نشأة التنظيم الإرهابي «داعش»، من خطط لها؟ ومن دعمها؟ ومن تستر عليها ووظفها؟ أصبحت «كرة لهب» يتقاذفها الجميع، فلا أحد يريد أن تلتصق به تهمة الإيجاد أو حتى معرفة الأسباب التي قادت إلى قيام هذا التنظيم فاحش الإجرام، الذي أدخل المنطقة في دوامة الاحتراب، لكن، كما يقول خبراء الجريمة، ابحث عن المستفيد من هذا التنظيم وجرائمه لتعرف بعض ما ينكره الجميع. الصورة معقدة، وألوانها متداخلة حتى ليصعب فرزها وتحديد ملامحها، لكن ما يمكن رصده هو: أن هذا التنظيم وتداعياته مكن إيران من ذريعة التغلغل في العراق، وأعطاها مسوغاً لتبرير مساندة نظام بشار بحجة مواجهة الإرهاب، كما أعطى الدول الكبرى بيئة ملائمة لتفاهماتها حول تحقيق مصالحها في المنطقة بعد أن أصبح هذا التنظيم «قلقاً» يزعج الجميع، وإن كان خطره على أهل المنطقة أكبر من غيرهم، وباتوا على استعداد لبذل كل ما لديهم لدفع خطره وشروره.
لا أريد الإيغال في نظرية المؤامرة بما توحيه الأحداث، التي هي في واقعها تخطيط الآخر لتحقيق مصالحه، لكن تداعي الجميع الآن لمحاصرة التنظيم من أجل القضاء عليه يشير إلى أنه أنجز ما وجد من أجله وانتهت مهمته، وإن كان تأثيره تخطى ما كان مطلوباً منه فقد أوجد واقعاً جديداً فتح شهية الكثيرين إقليمياً ودولياً وطرح سؤالاً محورياً مؤداه: ماذا بعد انتهاء مهمة «داعش»؟ وهو سؤال ولود تتفرع عنه عشرات علامات الاستفهام، بحسب السائل.
و«داعش»، في كيانه المعروف على الأرض العراقية والسورية، يبدو أنه في طريق النهاية بحيث يفقد ميزة الأرض والمال والشعب، وإن تطايرت شظاياه إلى أماكن أخرى لتشعل الحرائق. والسؤال المطروح على رأس هذه السطور يتصل بالعراق وسوريا، أي ماذا ستكون عليه صورة العراق وسوريا بعد القضاء على «داعش» وما يتفرع عنه من تنظيمات؟ هل سينتهي العراق، في جزئه الأكبر، إلى السقوط في الوعاء الإيراني وفوز الأكراد بما كانوا يريدونه من أجزاء محافظة نينوى؟ وما هو مصير العرب السنة في الموصل وغيرها من محافظات؟ هل ستدفعهم السياسة الطائفية لحكومة بغداد والخوف من فحش وجرائم الحشد الشعبي إلى «احتضان» تنظيم «داعش» والانتظام مع بقاياه في مقاومة تحمي أعراضهم من أفعال الانتقام التي يقوم بها الحشد الشعبي، بتوجيه قياداته الإيرانية الساعية إلى تدمير جسور التواصل بين الطوائف العراقية وكسر عزيمة العرب وإذلالهم؟ وهل ستفضي معركة القضاء على «داعش» إلى تقسيم سوريا إلى «كيانات» طائفية وعرقية تهدر ثمرات ما قدمه السوريون الأحرار من تضحيات على مدى خمس سنوات؟
سبق أن قلت في هذا الموقع: إن السيطرة الإيرانية على العراق تجاوزت صيغة تقديم المشورة العسكرية والدعم اللوجستي والمساندة السياسية وفرض العملاء ومشاركة الحشد الشعبي في عمليات تطهير مناطق العرب السنة، تجاوزت كل ذلك إلى فرض مشاركة الحرس الثوري الإيراني في عملية «تحرير» الموصل. وأثبتت المعلومات وجود معسكر إيراني بمثابة قاعدة عسكرية داخل الأراضي العراقية، يجري فيه بتدريب كتائب الحشد الشعبي عسكرياً وروحياً، وهذا يعني أن «تحرير الموصل» عنوان عريض ستدخل تحت ذريعته العناصر الإيرانية لتصفية حساباتها مع المكون العربي، الذي وقف ضد أطماعها وما يزال يقدم التضحيات الكبرى حتى لا تذوب عروبة العراق في حرائق الطائفية التي يوقدها الحاقدون على هذا البلد، الذي مثل نموذج التعايش بين جميع الطوائف والأديان على مر العصور. وقلت إن الحملة الإيرانية تضع العرب العراقيين السنة أمام خيارات صعبة في ظل عدم وجود معين عربي يخفف عنهم الظلم تحت وطأة الجنون «الداعشي» الذي يشوه حقيقتهم ويزيف مشاعرهم نحو وطنهم ويضعف موقفهم حين يصورهم متعاطفين معه.
والسياسة الأمريكية، منذ احتلال العراق 2003، كانت مؤيدة لاستقلال إقليم كردستان، في إطار توافقات العراقيين وتفاهمات إقليمية لها مواقف من الكيان الكردي. ومع تطور الأحداث وأخطاء السياسات الطائفية في بغداد، وما أدت إليه من نتائج مزقت وحدة العراق وزادت نفوذ إيران، وجد الأكراد الفرصة لتحقيق بعض طموحاتهم القديمة المتجددة في وجود كيان يجمع شتات الأكراد على أرض واحدة، وزاد في حماسهم وتطلعهم إلى تحقيق الهدف الحرب الدائرة على الأرض السورية وما يمكن أن ينبثق عنها.
ومن المعروف أن الدول المحيطة بالأكراد تعارض مشروع «كردستان» الكبرى لاعتبارات أمنية لا تريد تكوين سند وملاذ للمعارضين بقوة السلاح، وكانت الدول الكبرى «تتفهم» هذا الاعتراض وتتعامل معه في إطار مراعاة مصالح الحلفاء وتأييد مواقفهم، لكن يبدو أن «التبدلات» وتغيير المواقف وإعادة حسابات الدول الكبرى كلها عوامل أحدثت بعض التغييرات في المواقف التقليدية. وبدت سياسة الدول الكبرى «أمريكا وروسيا» داعمة لهذا المشروع بأسباب القوة لتنفيذه، كما هو واضح في العراق وسوريا. لكن ما هي حدود هذا المشروع؟ هل يقوم كيان كردي في العراق، في حدود الإقليم المعروف حالياً مع بعض التعديلات على الأرض، وكيان آخر عن الأول في شرق سوريا؟ أم أن هذه الخطوة تمهد لاتحاد الكيانين في جسم واحد ليشكلا بعضاً من «كردستان الحلم»؟ المعلن حتى الآن هو تمسك الأكراد بانتمائهم الوطني، العراقي عراقي، والسوري سوري، في إطار الفيديرالية، لكن هذا الواقع قابل للتغيير في مناخ «التقسيم» الذي يلوح في الأفق ويعمل من أجله الكيان الصهيوني، ولم تعد تستبعده الدول الكبرى. ففي سوريا يبرز «مشروع التقسيم»، الذي يشار إليه منذ فترة وإن حاول الجميع تحاشي طرحه في الخيارات المتداولة، لكنه يتسرب الحديث عنه من وقت إلى آخر، فوزير الخارجية الأمريكي قال: «أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ 24 -2-2016»: ربما من الصعب أن تبقى سوريا موحدة إذا استمر فيها القتال مدة أطول مما مضى، وإن التقسيم يمكن أن يكون خياراً بديلاً في حال فشل اتفاق وقف إطلاق النار والمفاوضات الجارية. وروسيا قالت إنها لن تقف ضد فكرة قيام «سورية الفيديرالية» على أن توضع معايير محددة لهيكلية سياسية تعتمد على وحدة الأراضي، وفي مجلس الأمن سمع حديث عن «مركز فضفاض مع كثير من مناطق الحكم الذاتي المختلفة»... وإذا أضيفت إلى هذا «التوجه الدولي» نتائج المآسي الإنسانية والإنجازات العسكرية على الأرض فستصبح كلها عوامل تدفع باتجاه احتمال قبول «الفيديرالية الفضفاضة» ظناً من البعض أنها ستوقف تدهور الوضع. لكن هذا التصور يتجاهل حقائق جوهرية تثبت أن التقسيم الناتج من فرض الواقع بالقوة لا يؤدي إلى كيانات سليمة ولا إلى علاقات طبيعية بين أجزاء المقسم، بل تورث تقسيمات الحرب كثيراً من الأحقاد والشكوك والرغبة في الانتقام والكيد، وغالباً ما تكون نتائج تقسيمات الحروب ظلم البعض وغياب الحقوق وحصول البعض على ما ليس له، وكل هذا يقود إلى تعقيد المستقبل ويفقد الكيانات الناشئة الأمن والاستقرار ويزرع «قابلية» استمرار النزاعات.
والخلاصة أن وجود «داعش» حقق مصالح الذين أرادوا «تفكيك» الخريطة العربية وفرض هيمنتهم، وأن انتهاء مهمته يصب في مجرى مصالح كثيرين، لكن تحقيقها يتوقف على قدرة كل طرف.
* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية