لم يكن فشل مفاوضات جنيف السورية مفاجئاً، ولا علاقة لتأجيلها، مرة بعد مرة، بخرق وقف إطلاق النار في حلب أو الغوطة، أو عدم التزام الأطراف المتقاتلة الهدنة المعلنة. السبب الأساسي أن روسيا والولايات المتحدة لم تتفقا بعد على تقاسم النفوذ في الشرق الأوسط، وإفساحهما المجال للدول الإقليمية للغوص أكثر في هذا المستنقع. ولكل منهما هدفه. موسكو تسعى إلى تكريس وجودها في المنطقة، طامحة إلى إحياء مشروع استراتيجي إمبراطوري قديم جداً يقضي بإنشاء تحالف أو تكتل عسكري- سياسي، يمتد إلى طهران وبغداد ودمشق، وكان هذا المشروع يواجه الكثير من العقبات، ففي ستينات وسبعينات القرن الماضي كانت تركيا وإيران الشاه وإسرائيل تقف حائلاً دون تحقيقه، وبعد الثورة لم تكن إيران الضعيفة مستعدة للتعاون في تنفيذه، فضلاً عن تفكك الاتحاد السوفيتي مطلع التسعينات، واستقلال الدول الآسيوية التي كانت تدور في فلكه وتحولها في اتجاه الغرب، وسماح بعضها للولايات المتحدة بإقامة قواعد عسكرية. اليوم يجد بوتين الفرصة سانحة لإعادة إحياء هذا الحلم من خلال علاقاته القوية مع إيران والحرب الأهلية في سورية وتمسكه بالأسد، وتحييد تركيا الخائفة من إقامة دولة كردية قرب حدودها.أما واشنطن فكانت تواجه هذا المشروع بتمتين تحالفاتها في آسيا الوسطى والقوقاز، وفي الشرق الأوسط، وإقامة قواعد عسكرية فيها، كما حاصرت إيران بعد الثورة واعتبرت سوريا جزءاً من محور الشر، وضربت العراق وأسقطت نظامه، بعدما أنهكته حرب الخليج الأولى، وأزالت معالم دولته لتنشئ نظاماً موالياً، معتمداً في بقائه على الدعم السياسي والعسكري الذي تقدمه إليه كي لا يقع في أحضان طهران، من دون أن يعاديها، وكي لا ينفتح على دمشق وحلمها القديم «منذ أيام الأسد الأب» في التواصل مع موسكو عبر هذا الخط الإستراتيجي.انطلاقاً من هذا التفكير تتواجه الولايات المتحدة وروسيا في سوريا، وعلى خلفيته تجري المحادثات بين كيري ولافروف اللذين لم يجدا بعد مساحة للتوافق. يقول روبرت مالي، وهو منسق شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والخليج في البيت الأبيض ومساعد الرئيس أوباما، إن «الروس لا يعارضون الانتقال السياسي «في سوريا»، ويريدون تجنب نشوء وضع يؤدي إلى تدمير مؤسسات الدولة وتفككها وانتصار الجهاديين. كما إنهم يدعون إلى وقف النار، لكنهم ضد أن تستغل «النصرة» هذه الهدنة. ونحن نشاطرهم موقفهم في هاتين النقطتين». «فورين بوليسي». ويضيف: «نقول بصراحة، سواء كان هناك اختلاف بين ما تقوله موسكو وما يجول في ذهنها، أو إن كانت عاجزة عن إجبار النظام السوري على القيام بما يجب «وقف قصف المعارضة المعتدلة»، فنحن لا نخسر شيئاً. وسنواصل تقديم الدعم للمعارضة السورية، ولن نسمح للنظام بأن ينتصر». وتابع أن «واشنطن تسعى إلى التعاون مع روسيا لتحقيق أهداف مشتركة، لكن في حال فشل هذا التعاون فنحن مستعدون لاتخاذ خطوات تؤدي إلى إطالة أمد النزاع».لم يوضح مالي الأهداف المشتركة، ولا كيفية التوصل إلى تحديدها، فالنقطتان اللتان تحدث عنهما «الانتقال السياسي وتجنب انهيار الدولة» غير كافيتين لإنهاء الحرب التي بدأت تمتد إلى دول الجوار، خصوصاً تركيا. ومن غير الواضح أيضاً كيف يمكن الدولتين التفاهم على حلول للأزمات المعقدة، بدءاً من أوكرانيا وجورجيا وليس انتهاء بسوريا.كل المؤشرات تؤكد إطالة أمد الحروب الطائفية والمذهبية في المشرق العربي والعراق، فلا موسكو مستعدة للتخلي عن حلمها في تكريس الخط الاستراتيجي إلى دمشق مروراً بطهران وبغداد، ولا واشنطن مستعدة لمغادرة المنطقة. بل هي عادت إليها بقوة، بعد انكفاء لم يدم طويلاً، كما إن الحرب بين «اليانكي» والجيش الأحمر ليست واردة.* نقلاً عن صحيفة «الحياة» اللندنية
{{ article.visit_count }}
970x90
{{ article.article_title }}
970x90