لم يكن في الحسبان بالنسبة لي أن مقالي بعنوان «نغزة» سوف يكون بمثابة مجموعة من النغزات لبعض القراء والمتابعين، وذلك بكل أسف أقولها لسبب الفهم الخاطئ «للعبرة» المرجوة من المقال.. حيث كانت الرسالة واضحة وظاهرة كنور الشمس إلا أن البعض أبى إلا أن يغطيها وراء ستار معتم وقام بتفسير ما قرأه بحسب ما تهوى نفسه ليجد نفسه نصير «أصحاب الألقاب» والدفاع عنها بحساسية مفرطة، في الوقت الذي اعتبر كثيرون المقال بأنه يثلج القلب ويستفز الواقع المر الذي أجبرنا على التعايش معه.
لكن منذ يومين عرفت معلومة كانت بمثابة البلسم على جرح قديم ينزف، عرفتها من إحدى الطبيبات اللواتي أتردد على عيادتهن وتجمعني بها صداقة طيبة، وفي حوار بيني وبينها قاطعتني الدكتورة سائلة: هل تعرفين ما هو اللقب الذي يطلق على الجراح في بريطانيا؟ فقلت لها: لا أبداً، فقالت: يطلق عليه لقب السيد أي Mr، ولا ينادى له بالدكتور أو الجراح بالرغم من مرتبته العلمية الرفيعة التي تفوق الطبيب العادي أي الدكتور.
جواب الدكتورة أو السيدة بحسب «مدرسة الجراحة البريطانية» كان بمثابة مفاجأة غير متوقعة لي، ولكن من المثير أن أعرف السبب وراء ذلك، فقد عللت ذلك بالقول إنه بعهد ليس ببعيد في بريطانيا لم يكن يوجد بها جراحون وإنما كان الحلاق الذي يقص الشعر هو نفسه الذي يقوم بعدة أمور أخرى مصاحبة، فهو طبيب الأسنان، فيشرط اللثة ويعالج الأضراس، وقد يقتلعها، بالإضافة إلى معالجة أمراض «اللوزتين»، وأمراض العيون، والجلد، وأمور كثيرة غيرها، وكان يمتلك محبة وثقة كبيرة من قبل الناس، ولأنهم يجدونه أكثر من كونه فقط حلاقاً وإنما يجدونه شخصاً متعدد المواهب العلاجية والتمريضية بالإضافة إلى الحلاقة، لذا فإنهم ينادونه بـ»السيد».
وعندما أصبحت الجراحة أكاديمية وتسير بمنهج علمي، وبالتالي صلاحيات هذا «السيد» بدأت بالانقراض رويداً رويداً، فما كان من «مدرسة الجراحة البريطانية»، إلا أن تجد طريقة أبدية لتكريم هؤلاء الناس والمحافظة على هذا الإرث العظيم وهو مناداة الجراح من العصر الجديد بـ»السيد». فقاطعتها سائلة: لكن لهذا السبب يعود المثل الشعبي القديم «بيكون عم يحلق فيقلع أضراس».
علماً بأن ما يقوم به الحلاق البريطاني من مهام في ذلك الزمان هي نفسها المهام التي كانت تنفذ على أيدي الحلاقين العرب خاصة في بلاد الشام وأيضاً شبه الجزيرة العربية. ولكن يبقى الفارق بسيطاً وهو أن «مدرسة الجراحة البريطانية» لم تعتبر أن مناداة الجراح بلقب «سيد» تقليلاً من شأن الطبيب وإنما محافظة على تقدير مهنة انقرضت وولت منذ زمن. ونحن في المقابل نتخفى وراء ألقاب كي نترفع بها عن الناس إلا من رحم ربي، فليست الألقاب هي ما تستوجب التقدير والاحترام وإنما ما نضيف نحن إليها كشخصيات حاملة لتلك الألقاب. فصدق الإمام الشافعي رحمه الله حين قال:
وأقبح شيء أن يرى المرء نفسه
رفيعاً وعند العالمين وضيعُ
تواضع تكن كالنجم لاح لنـاظر
على صفحات الماء وهو رفيعُ
ولا تك كالدخان يعلو بنفســه
على طبقات الجو وهو وضيعُ