نظرية «الشبابيك المكسورة» هي نظرية في علم الجريمة وأصلها بسيط جداً، كما ظهر في مقال كتبه صاحبا النظرية «جورج كيلينج» و«جيمس ويلسون» في عام 1982، حيث قالا ان «وجود شبابيك مكسورة في الحي يشجع الناس على كسر المزيد من النوافذ، حيث سيظن المارة بأنه لا أحد يهتم، وبالتالي فلا يوجد أحد يتولى زمام الأمور، فينتقل الأمر إلى الاعتداء على السيارات والسرقة، وأن وجود بعض الأوساخ في الشارع يشجع الناس على المزيد من الاستهتار بالنظافة العامة حتى يصبح الحي لا يطاق»، لعلنا هنا أمام مفهوم أصيل في ثقافتنا وهو «الكبائر تبدأ بالصغائر»، وأن «عظيم النار من مستصغر الشرر»، أو صغائر الأمور بدايات عظائمها.
«مبدأ النظرية بسيط ولكنه عبقري في تقنينه فهو مبني على علم النفس البشري الذي يقول ان الإنسان لديه القدرة وعنده حب الانضباط والالتزام بالقوانين والآداب العامة متى ما توفرت له البيئة المشجعة على ذلك، وسرعان ما يتحلل من هذا الالتزام متى ما ضعف الضبط أو رأى الانفلات من حوله».
في تسعينيات القرن الماضي أصبح رودي جولياني عمدة لمدينة نيويورك وأخذ زمام المبادرة لتطبق النظرية على أوسع نطاق وبدون حدود، فغير قوانين الإدارة «خاصة الإدارة المدنية»، واستطاع بفضلها أن يغير وجه نيويورك. كانت فكرته المنبثقة من نظرية «الشبابيك المكسورة» هي «نسبة صفر من التسامح zero tolerance»، حيث بدأ جولياني يركز على منع الذين يمسحون نوافذ السيارات بدون إذن أصحابها على إشارات المرور للحصول على ربع دولار بنفس القدر الذي يلاحق فيه جرائم القتل، وعلى مستوى المرور فُرضت الضرائب على كل مخالفة صغيرة «مهما صغرت»، فقلت المخالفات الكبيرة وتضاءلت نسبة الحوادث، كانت النتيجة مذهلة حيث بدأت نيويورك تتحول سريعاً من مدينة للفوضى والجريمة إلى مدينة منضبطة ونظيفة وآمنة.
كانت نتيجة النجاح مذهلة فقد تبنّت الإدارات الحكومية والمؤسسات الخاصة هذه النظرية كأساس مهم في فن الإدارة لتطوير العمل ورفع الإنتاجية والارتقاء بالمنتجات «السلع والخدمات».
في البحرين يتميز نظام المرور بالانضباط الحازم والتتبع الشديد للمخالف، والعقوبات القاسية فكانت النتيجة أن كل من يدخلها يلتزم الانضباط ويبتعد عن التهور، في المملكة العربية السعودية عندما طبق نظام «ساهر» للمخالفات كانت النتيجة مذهلة، حيث انخفض ضبط وتحرير المخالفات بعد تطبيق نظام «ساهر» بالمملكة بنسبة 43 % في العام الماضي.
الخطأ بأنواعه معدي ينمو ويتكاثر ويتطور ليتضخم بسرعة ويصبح سرطاناً يهدد بالقضاء على المجتمع أو المنظمة، القضاء على هذا السرطان يتم وهو في بداياته الجنينية.
مثل هذا يحصل في المنظمات الحكومية والخاصة حيث يتغير سلوك الإنسان عندما يشعر بالانضباط من حوله مباشرة، وتطبيقات النظرية وصلت للإدراة فكانت النتيجة أنظمة مثل «سيكس سيجما» التي يكاد تطبيقها يصل بالعطب إلى نسب عشرية، وامتدادها إلى عالم صناعة الكمبيوتر، إذ كانت نتيجته أن أحد عمالقة عالم الكمبيوتر اتخذ قراراً بأنه لن يتسامح مع أي ثغرة أمنية، وسيبذل كل الجهود لمنع أي ثغرة، وقد ساهم هذا ليبعده تماماً عن الفيروسات بأنواعها، بينما بقيت أجهزة الشركات العملاقة الأخرى عرضة للفيروسات بشكل مستمر.
التركيز على نشر ثقافة مواجهة الأخطاء الصغيرة ومنعها سيمنع حتماً حدوث الأخطاء الكبيره ويخلق بيئة نفسية تتسم بالانضباط، وأن امتناع الموظفين عن الأخطاء الصغيرة وبالتالي الكبيرة دون الحاجة لأنظمة العقاب الشديدة التي يظن بعض المديرين أنها الحل الوحيد لمنع الأخطاء، سيؤدي إلى تطور كبير في الأداء ويخلق رقابة ذاتية كابحة ويقضي بنسبة كبيرة على الأخطاء الكبيرة، وبالتالي على ما تتكبده المؤسسات نتيجتها.
إن تطبيق ذلك على خدمة العملاء والمراجعين وتسيير الأعمال الحكومية والخاصة ليس كفيلاً فقط بمواجهة الفساد ووأده، بل يؤدي أيضاً إلى خفض التكاليف وتوفير الوقت وتحسين الأداء ورفع الكفاءة والفعالية التنظيمية والإنتاجية وبالتالي الربحية.
إن عدم التسامح مع الأخطاء مهما صغرت ونشر هذه الثقافة ونظمها هي أحد المفاتيح الذكية للقيادة الإدارية الاستباقية والسيطرة على الهدر وتخفيض تكلفة أنظمة المراقبة والتتبع.
* استشاري ومطور أعمال وقدرات بشرية