أشرنا في المقال السابق إلى أن جهة الإدارة تتمتع بمبدأ سلطان الإرادة، حالها حال الأفراد، وهي بصدد إبرام عقودها المدنية أو الإدارية، وطبيعة عقود الأفراد، من حيث الإجراءات والاختصاصات والتقيد بما تنظمه القوانين والأنظمة في هذا الشأن.
ولا يعني تقيد جهة الإدارة بتلك القوانين والأنظمة انتفاء مبدأ سلطان الإرادة، إنما نتيجة لطبيعة عقود الإدارة، الإدارية على وجه الخصوص، وتعلقها باستمرار سير المرافق العامة، حتم وجود بعض الإجراءات التي تسعى إلى المحافظة على المال العام من جهة، وتحقيق المساواة وحرية المنافسة والعدالة فيما بين الموردين والمقاولين المشاركين في المشتريات الحكومية.
وعليه، فإن لجهة الإدارة الحرية الكاملة في توفير الخدمات والمنشآت والسلع اللازمة للمرفق العام الذي تديره عن طريق الإجراءات المنظمة تشريعياً التي تساعدها على ذلك وفق أفضل الأسعار والشروط.
وتعتبر عملية إبرام العقد الإداري آخر حلقات إجراءات الشراء الحكومي، حيث يتم إفراغ كافة الشروط ذات العلاقة بالتنفيذ في هذا العقد، بالإضافة إلى ذات الشروط والمواصفات المدرجة في دفتر الشروط أو الإحالة إليها.
وإعمالاً لمبدأ سلطان الإرادة، تستطيع جهة الإدارة أن تضمن عقدها الإداري ما تراه محققاً للصالح العام في ظل وفي حدود القانون والأنظمة المتبعة، كما سبق بيانه.
ونتيجة لدخول الدولة الحديثة في علاقات تعاقدية معقدة ومتشعبة ذات مبالغ خيالية مع الأشخاص الأجنبية الخاصة، ونظراً لتخوف هذه الأخيرة من استبداد النظام القضائي بالدولة المتعاقدة وتحيزه لها، اتجهت أغلب الدول إلى الرضوخ إلى مطالب الشركات الأجنبية العملاقة من حيث تضمين عقودها الإدارية شرط التحكيم وشرطي الثبات التشريعي وثبات العقد، ناهيك عن شرط توزيع المخاطر. وذلك كله ترجمة حقيقية لمبدأ سلطان الإرادة الذي تتمتع به الإدارة، كما يتمتع به المتعاقد معها.
ويجد مبدأ سلطان الإرادة الذي تتمتع به جهة الإدارة يجد صداه كذلك في العديد من القرارات الصادرة عن مجمع القانون الدولي؛ ففي دور انعقاده في أثينا عام 1979 أكد المجمع على أن العقود المبرمة بين الدولة والأشخاص الخاصة الأجنبية تخضع للقانون الذي يختاره الأطراف. وفي قراره الصادر عام 1989 المتعلق بالتحكيم بين الدول والمشروعات التابعة للدول أو وحداتها الوطنية والمشروعات الأجنبية، نصت المادة السادسة على أن «يملك الأطراف الحرية الكاملة في تحديد القواعد والمبادئ الإجرائية والقانون الموضوعي الذي ينبغي تطبيقه بواسطة المحكمين».
كما أنه في إطار اتفاقية واشنطن للتحكيم لعام 1965، فإن مجرد قبول الدولة بالاتفاقية أو انضمامها أو تصديقها عليها يعد اعترافاً من جانبها بقدرتها على اللجوء إلى التحكيم ولو كان قانونها الوطني لا يجيز لها ذلك، كون المعاهدات الدولية تعد مصدراً رئيساً من مصادر القانون الدولي العام بوصفها تشريعات دولية تسمو على القانون الوطني «في بعض الدول»، وتكون في ذات مرتبة القانون الوطني «في دول أخرى». وذات الحال فيما يتعلق باتفاقية نيويورك بشأن الاعتراف بقرارات التحكيم الأجنبية وتنفيذها لعام 1958.
وما ينطبق على التحكيم وتحديد القانون الواجب التطبيق على موضوع النزاع أو على الإجراءات، من حيث إعمال مبدأ سلطان الإرادة للشخص المعنوي العام، فإن إدراج شرط ثبات العقد أو الثبات التشريعي هو الآخر يعد تفعيلاً لذلك المبدأ وصورة من صور الضمانات الاتفاقية المقررة لصالح المتعاقد مع الإدارة.
وهناك صورة أخرى من صور الضمانات الاتفاقية تتمثل في مبدأ توزيع المخاطر بين جهة الإدارة والمتعاقد معها، ويعد هذا المبدأ إحدى السمات الرئيسة لعقود الشراكة والمميز لها عن غيرها من العقود الإدارية الأخرى. كما أنها تجد صداها كذلك في عقود التزام المرافق العامة مع اختلاف قواعد وأسس تطبيقها في كل طائفة عقدية. وسنتطرق تباعاً لكل صورة من صور تلك الضمانات خلال المقالات القادمة.