لفت انتباهي كتاب للصحافي القدير جهاد الزين، وهو الصحافي المتمرس بالكتابات السياسية. والكتاب الذي عنوانه «قصيدة إسطنبول»، هو عبارة عن ديوان شعر، هو الأول له، وقد صدر في عام 2002، ولكن تمت ترجمته للإنجليزية مؤخراً، من قبل الدكتور رغيد نحاس المقيم في سيدني بأستراليا. وبينما يتهمنا الغرب زوراً وبهتاناً بأننا مصدر الإرهاب والتطرف يأتي الديوان ليثبت أنه بإمكاننا تصدير الفكر والشعر.
والديوان هو انعكاس لخواطر الشاعر الفنان المفتون بالمدينة العريقة إسطنبول. ويقسم الزين ديوانه إلى عشرة فصول، يسميها سفن يبحر بها في عمق بحور الشعر، ويستحضر حقائق إنسانية تتجاوز التفاوت الحضاري، وتتجاوز الحقب الزمنية. ففي سفينته التاسعة، يناجي غرناطة المتوفية إسطنبول التي على حد تعبير الشاعر «انكسارها أعمق من أن تزول». وفي وصفه لغرناطة حنين مبطن إلى مجدها الزائل، وهو حنين إلى مجد العرب السابق، هو حنين إلى زمن كانت فيه غرناطة العربية محجة المثقفين والفلاسفة من كل بقاع العالم، يوم كان العرب مثالاً يحتذى به في الرقي والتحضر.
ويبحر الشاعر في الوجدان الإنساني، ففي السفينة الثامنة يتكلم عن الوحدة فيصفها بأنها «كالأفاعي تلسع بالمفصل من داخله»، ويتطرق إلى الخوف فيناجيه، وتأخذ الرياح سفينة الزين الثامنة، ليتكلم عن توق النفس البشرية للانتماء.
وترسو السفينة الأخيرة في ميناء الديوان وهي مهداة إلى فقراء إسطنبول، كما إلى فقراء كل المدن «العظيمة والمتوحشة»، ومن هنا يتأمل الشاعر في بؤس النفس البشرية، فيقول «أهو بؤس مجاني أم بؤس رخيص السعر في سوق داخلية أم جزء من بؤس يضخ تقدم العلم»، وهنا يتأمل كيف أن غنى بعض الناس يكون على حساب فقر الآخرين، كما يستخلص أن تقدم العالم قد دفع ثمنه عوز الفقراء والمحرومين في العالم.
وبعد التأمل العميق في الديوان يرى القارئ أنه بالرغم من أن الكاتب هو عربي، فالترجمة لم تفقد نكهتها الشعرية ومازالت باستطاعتها، وبالرغم من لغتها المستعارة أن تخاطب النفس البشرية مهما كان لونها، وكم نحن بحاجة لأعمال مثل أعمال الزين لنمزق اللوحة القاتمة والدموية التي رسمها لنا المتطرفون والمجرمون والتي عرضوها للتشهير بنا في باريس ونيس وبروكسل وأورلاندو وسان برنادينو. وهذا العمل لا يتطرق للسياسة أو للعقيدة ولا يدافع عن العرب ولكنه يذهب مباشرة ليلامس الروح الإنسانية بغض النظر عن الانتماء أو الأيديولوجية أو الهوية. وفي هذا الصدد يقول الشاعر «لا صلة لي بكل الفاكهة العقائدية». وكم نحن بحاجة لمثل تلك الأعمال حتى تجتاز سفننا الأمواج العاتية وحتى نتجاوز القراصنة الذين اختطفوا حضاراتنا وجردوها من إنسانيتها لنصل بأمان إلى شواطئ ذهنية الغرب. فالبعد الإنساني الموجود في ديوان «قصيدة إسطنبول» مكن الزين من التواصل مع الإنسان الغربي، وكشف لهذا الأخير عن الحس المرهف للشاعر والإنسان العربي.