قبل أيام مضت، أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، «اليونسكو»، وبمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية بأن هذا العام سيصادف «الذكرى السنوية الخمسين لإعلان اليوم الدولي لمحو الأمية، وهو العام الذي تحتفل فيه «اليونسكو» بهذا اليوم تحت شعار «قراءة الماضي، صياغة المستقبل». ويرمي اليوم الدولي لمحو الأمية 2016 إلى الاحتفال والإشادة بالجهود والتعهدات وأوجه التقدم المحرز على الصعيدين الوطني والدولي خلال العقود الخمسة الماضية بغية زيادة معدلات محو الأمية في جميع أرجاء العالم. كما يتصدى هذا اليوم للتحديات الراهنة ويتطلع إلى إيجاد حلول مبتكرة لمواصلة تعزيز محو الأمية في المستقبل. قبل خمسين سنة، أعلنت «اليونسكو» رسمياً يوم 8 سبتمبر، اليوم الدولي لمحو الأمية من أجل حشد المجتمع الدولي على نحو فعال ولتعزيز محو الأمية كوسيلة لتمكين الأفراد والجماعات والمجتمعات. ويُشكل محو الأمية جزءاً من «الهدف الرابع» للتنمية المستدامة الذي يتمثل في «ضمان التعليم الجيد المنصف والشامل للجميع وتعزيز فرص التعلّم مدى الحياة للجميع».
بهذا الإعلان المهم، سيدخل العالم قريباً حقبة جديدة في محاربة الأمية وتوسيع مفاهيمها التي بدأت تتجاوز حدود الورقة والقلم، لتشمل مجموعة من القيم والمفاهيم أكثر أهمية من القراءة والكتابة نفسها، فمفهوم الأمية تمدد وتوسَّع حتى وصل إلى تفسيرات ثقافية مختلفة، لعل من أبرز تلكم المفاهيم هو التصاق السلوك الحضاري للإنسان بالعلم، وانتصار مفهوم القضاء على الأمية بموازاة القضاء على السلوك الشاذ لهذا الإنسان. فالقراءة وحدها لا تمحو الأمية الحضارية وإنما هناك قيم يجب تعلمها بموازاة هذا الفعل.
ففي زمن التطور والتقدم والعلم والاختراعات والاكتشافات وغزو الفضاء، يكون رمي الإنسان أوساخه وسط الشارع نوعاً من أنواع الأمية، كذلك قطع الإشارة الحمراء ومخالفة القانون وتجاوز النظم واحتقار الآخر وتحفيز سبل الكراهية وأوجهها في المجتمع والانتماء للجماعات الإرهابية والانخراط في مشاريع فتنوية وإتلاف المال العام وعدم احترام بقية القوانين والأطر الوضعية التي تنظم حياة الفرد والمجتمع كلها تعتبر من أبشع أنواع الأمية الحضارية، فمشكلة الأمَّية في عصرنا هذا لا تتمحور حول القراءة والكتابة فقط، وإنما تتكثف في سلوكنا الذي يعكس تحضّرنا أو تخلّفنا بين الأمم، وهذا ما نعنيه بتوسيع مفاهيم الأمية وخروج قراءتنا لها عن المنهج التقليدي إلى فضاءات أكثر حساسية وخطورة.
ما الفائدة من مجتمع يعرف جميع أفراده كل أشكال «القراءة والكتابة» ولكنهم لا يعرفون حدود السلوك الحضاري السليم في التعامل مع أدوات العصر، بل انهم لا يجيدون قراءة الواقع فضلاً عن المستقبل. إن فرحة المجتمعات المعاصرة بالقضاء على «الأمية» تتشكل في ما بعد مرحلة إجادة القراءة والكتابة، لتنتقل وبشكل سلس إلى سلوك الأفراد والمجتمعات، وهذا تحديداً ما يجب أن يفهمه العرب قبل غيرهم، ليكون معنى «محو الأمِّية» عندنا أكبر من حرف وقلم، بل يجب أن نعي بأنه سلوك حضاري يعلمنا كيف نتعامل مع الحياة بشكل لائق، لنكون خير أمة أخرجت للناس. هذا ما لزم إيضاحه في اليوم الدولي لمحو الأمية.