أولاً، أود الاعتذار من القراء الكرام لعدم كتابتي مقال الأسبوع الماضي لانشغالي بمراقبة الانتخابات في بلدنا الشقيق الأردن، حيث كنت هناك كمراقب دولي تحت مظلة الشبكة العربية للمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان، ولعلي في المستقبل القريب أوجز لكم خلاصة التجربة الرائعة والرائدة للعملية الانتخابية هناك، ومقارنتها بمثيلتها في البحرين، وذلك للاستفادة والإفادة.
واعتذاري الثاني هو لقطعي تسلسل مواضيع مقالاتي كما وعدت، وذلك للمصاب الجلل الذي استدعى قطعه، ففي صباح يوم السبت الماضي 24-9-2016 فقدت البحرين أحد رجالاتها العظام بأخلاقهم الكريمة وعطائهم اللامحدود، فقدت أسرة جمعية «معاً» لحقوق الإنسان أحد أعضائها الذين تركوا بصمة لا تمحى من قلوبنا ولا من تاريخنا، فقدت الأسرة الطبية البحرينية أحد أكفأ وأخلص رجالاتها الذين قدموا الكثير لمرضاهم دون حساب لوقت أو مقابل وكانت دعوة مخلصة من مريض ساعدوه تكفيهم لتمنحهم سعادة الدنيا وتنسيهم التعب والإرهاق، فقدت عائلة البنا الابن البار والأخ العضيد الذي لا يعوض فقده إلا أمل باللقاء في أعلى عليين في الفردوس الأعلى ورحمة من رب رحيم تغمرنا جميعاً بالصبر على فراقه.
لا يظنن أحد أن كلماتي اليوم رثاء في فقيدنا الغالي الدكتور عبدالله أحمد البنا رفيق دربي وعضيدي منذ بداية امتهاني لمهنة الطب، مروراً بتخصصنا، نفس التخصص النادر في مجال الطب التكاملي والبديل، ووصولاً إلى مجال حقوق الإنسان، وما صاحب كل ذلك من تحديات ومصاعب وإنجازات وأوقات جميلة وصحبة صالحة ومحاسن لا تحصى طوال سنوات طوال، ولكنها بضع ومضات مضيئة من سيرته التي عايشتها وشاهدتها علنا نتعلم شيئاً من مدرسة أخلاقه وجهاده وعلمه وصبره.
كنت أظن أني لن أعرف أحداً مثل زوجي الدكتور خليفة بوراشد رحمه الله وأسكنه الفردوس الأعلى يا رب، في صبره على الألم والمرض، وفي الوقت نفسه يتحسر في أيامه الأخيرة على أن جسده الضعيف لا يتيح له أن يخدم الناس أكثر بعلمه وعلاجه، رغم أن الناس كانت ولاتزال حتى بعد 12 سنة من وفاته تشهد له أنه مدرسة في العطاء والكفاءة والإخلاص والالتزام ما يزيد على ثلاثة عقود، لم يخدم فيها أهل البحرين فقط، ولكن خدم أهل الخليج وبلاداً عربية وغربية كثيرة، حيث هو أيضاً كان تخصصه نادراً، وكان جراح المخ والأعصاب الوحيد هنا لعقود، ورغم ذلك ورغم صراعه المرير طوال عام مع المرض والألم، يتحسر لعدم استطاعته خدمة المرضى أكثر، إلا أني كنت مخطئة فقد رأيت ذلك مرة أخرى ولكن هذه المرة طوال خمس سنوات مريرة، كابدها دكتورنا الغالي عبدالله البنا في صراعه مع مرض السرطان، كما زوجي «رحمهما الله» ووفاهما أجرهما بغير حساب على صبرهما، ولكن دكتور عبدالله زاد عليه في تحسره على محدودية عطائه في مجال حقوق الإنسان الذي أصبح شغفه الآخر، رغم عظم ما كان يقدمه بالنسبة لنا.. هكذا هم العظماء يرون ما يقدمونه متواضعاً رغم عظمه لدى الآخرين.
فقط سأسرد لكم هنا موقفاً واحداً أو ومضة واحدة من حياة مضيئة لفقيدنا الغالي حدث قبل عدة أشهر قبل أن يطرحه المرض قعيد فراشه، لكي تدركوا معي هذا الجانب من حياته، الذي لم يعرفه عنه كثيرون، حتى أولئك المقربون منه، فقد كان ينكر ذاته لغيره ويفضل أن يكون جندياً مجهولاً في كثير من مناحي عطائه. كنا نقيم سلسلة ورش عمل لبناء القدرات لأعضاء جمعية «معاً» لحقوق الإنسان في مقر الجمعية، وكان حاضراً في إحداها ولم يكن فقط أكثر الأعضاء حماساً ونقاشاً رغم آلامه التي كانت بادية عليه، ورغم محاولاته لإخفائها فقد كنت أعلم أنه أخذ مسكنات قوية للألم ليستطيع قيادة السيارة والحضور والجلوس على المقعد الذي كان يستأذنني على استحياء بين وقت وآخر أثناء ساعات مشاركته بالورشة ليقف تارة ويغير المقعد تارة أخرى، لأنه يتألم من مجرد الجلوس في وضعية واحدة لدقائق، إلا أنه عاهدني يومها بأنه سيدعو مجموعة من أصدقائه في نفس الليلة لينقل لهم ما تعلمه في تلك الورشة من رسائل إيجابية، ويحاول إقناعهم بالعمل التطوعي معنا إن لم يكن الانضمام للجمعية وقد فعل.
أرأيتم معي من هو فقيد البحرين الغالي، أعذروني إن لم أستطع كتابة المزيد فقلبي مثقل بالحزن عليه كما كل من عرفه أو تعامل معه، فقد اقترن اسمه بكلمة أخلاق، وأتعب من بعده.
فقط أريد أن أختم بدعائي وتضرعي لله تعالى أن تنجب البحرين الكثير من أمثاله فهي وأمتنا بحاجتهم، وأن يلهم والدته ووالده وأختيه ضياء وحصة وأخاه ياسر وكل عائلته وكل من عرفه وإيانا الصبر على فراقه والسلوان إلى أن نلقاه في عليين، لا بحسن عمل منا، وإنما برحمة أرحم الراحمين.
* عضو مجلس المفوضين بالمؤسسة الوطنية لحقوق الإنسان - رئيسة جمعية «معاً» لحقوق الإنسان