في كلمة معالي الشيخ راشد بن عبدالله وزير الداخلية الكثير مما يستحق أن نقف عنده ونتمعن فيه ونعيد قراءته ونفتح باب النقاش حوله في أكثر من محفل لا في مقال عابر فحسب.
فقد قدم معالي الوزير عرضاً شاملاً لسياسة الدولة المستقبلية لا الأمنية فحسب بل السياسية أيضاً نظراً لتداخل المنطقتين بشدة وتقاطعهما وتداخلهما في أكثر من مفصل، ومن المفترض أن تكون للدولة توجهات واضحة كالتي ورد ذكرها في الكلمة التي ألقيت من المفترض أن تعمل على نشرها وشرحها وإيضاحها وتبيانها باستغلال وتوظيف كل الوسائل الإعلامية وغير الإعلامية بالاتصال المباشر وغير المباشر بجميع الوسائل المتاحة ولجميع الشرائح والمستويات، هذا ما يحدث في الأحوال العادية فما بالك والدولة قد مرت بمرحلة اختلطت فيها المفاهيم والمبادئ الحقوقية والعدلية والأمنية والسياسية وعاث في وعي شبابها المضللون فساداً.
الدولة أوضحت موقفها من الذين ممكن أن يفكروا مستقبلاً «بإسقاط» النظام عبر أي وسيلة غير مشروعة، بأنهم سيحرمون -وفق القانون- من المشاركة في العملية السياسية، فلا يعتقد أحد أن الانتقال من العمل على تسقيط النظام إلى المشاركة في النظام عملية ممكنة وجائزة وممكنة متى ما فشلت الأولى انتقل إلى الثانية، فمن يتورط في جرم كمحاولة إسقاط النظام يحرم مدى الحياة من المشاركة السلمية السياسية، خاصة وللدولة دستور وعقد اجتماعي يفرض على الجميع قبوله والانصياع لأحكامه، ومن أراد تعديلاً لأي من بنوده فليتبع الآلية والطرق الدستورية المتاحة، ماذا وإلا فالقانون له بالمرصاد، وهكذا يستطيع المجتمع التفرغ للعمل والبناء والعيش السلمي دون قلق من اضطرابات وقلاقل.
أما عبارة «لا مكان له بيننا» أي لمن حاول إسقاط النظام، فتلك عبارة أبلغ وأكثر شمولية لأنها تحوي أيضاً القطيعة «الاجتماعية» كعقوبة لمن شارك في هذا الجرم تشجيعاً أو تحريضاً أو تبريراً أو تمجيداً للجريمة النكراء، إنما تحتاج هذه العبارة إلى تفعيل حقيقي بشكل لا يحتمل التأويل واللبس وازدواجية الرسائل عند من شاركوا في ذلك الجرم، تحتاج لوضوح كسياسة فعلية للدولة والقائمين عليها، والمسألة ليست انتقاماً أو تشفياً إنما هي نظام اجتماعي، كلما اقتنع المجتمع بحزم الدولة تجاهه فكر أكثر من مرة قبل أن يتورط في جريمة كهذه، ولا بد أن يكون إيصال الرسالة صارماً حتى لا نسمح بتكرار ما حدث في 2011، أما ازدواجية الرسائل والتهاون بتطبيقها فذلك يعني أننا في دولة كل مسؤول فيها يغني على ليلاه.
تلك الرسالة التي أوصلها وزير الداخلية هي نقطة التقاطع بين ما هو سياسي والاستحقاق الأمني المنوطة بهذه المؤسسة، فلا تتدخل الأجهزة الأمنية بالعمل السياسي طالما كان ضمن أطر الدستورية، لكن في اللحظة التي يتخلى فيها أي نشاط سياسي عن تلك الأطر والضوابط فإن من واجبه التدخل هنا لحفظ الأمن والسلم الاجتماعي، ولا يحق لأي كيان خارج الدولة أن يتدخل لمنعها وإعاقتها عن أداء واجبها تحت أي مظلة وإن كانت مظلة حقوقية.
الرسالة واضحة جداً ومهمة نتمنى أنها وصلت لمن تدثر بهذا الرداء إعلامياً أو حقوقياً أو سياسياً فعلم أن الدولة لن تسمح بأي تضليل لهذه الحقائق وسوق المبررات لها التي تخلط الوعي وتلبسه بالظن إن تجاوز القانون أو الالتزام مرهوناً «بقناعة» الإنسان بالقانون أو «برضاه» عنه!
تأكيد وزير الداخلية على عدم الالتفات إلى مؤسسات دولية تحاول أن تتدخل في نظامنا القضائي والاعتماد على مؤسساتنا الوطنية لتعزيز منظومة الحقوق هو تثنية على ما قاله وزير الخارجية البحريني بأننا لن يعنينا مجلس مسيس عن أولوياتنا الأمنية.
ثم عرج وزير الداخلية على المعادلة الخاطئة التي كان يُعتقد أنها تعزز الحكم «فرق تسد» وثبت عكسها تماماً، فأكثر ما يهدد الأمن هو ضعف النسيج الوحدوي الاجتماعي في الدولة وذلك ملف يتقاطع في البعد الاجتماعي مع البعد السياسي ويحتاج هو الآخر أن يفتح ملفه للنقاش العلني المفيد والإيجابي الذي يرى التعددية ثراء وتنوعاً مفيداً ويحترم آدمية الإنسان.
جميع هذه النقاط وردت بشكل سريع في كلمة معالي وزير الداخلية، إنها خارطة طريق تحتاج أن تعد لها الدولة متحدثين يناط بهم شرحها وتوضيحها للمجتمع وتفتح باب الحديث عنها والاستعانة بالإعلام وبالأكاديميين وبالعاملين في المجال الحقوقي والعدلي والسياسي.
الخطاب كان مجرد عناوين كل واحد منها يحتاج إلى تفصيل وشرح، وبرنامج «المناصحة» لا يجب أن يقتصر في هذه الحالة على المحكومين بل يحتاج العديد من الذين يعملون في الإعلام والسياسة والحقوق والبحوث والدراسات برنامجاً مكثفاً لتأهيلهم للدفاع عن هذه السياسة بعد فهمها وشرحها ومقارنتها بالسياسات والأنظمة في الدول الأخرى.