لأول مرة في تاريخ «الكونغرس» الأمريكي يتم نقض «فيتو رئاسي»، رغم أن التسليم بمصداقية باراك أوباما بأنه ضد محاولة استهداف حكومة المملكة العربية السعودية بشأن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، عملية فيها ضرب من الجنون، فأوباما كغيره من صناع السياسة الأمريكية لن يكون شخصاً مدافعاً عن السعودية، بقدر ما سيدافع عن مصالح أمريكا، بمعنى أن العملية كلها تبادل أدوار.
قانون «جاستا» الذي قاتل الكونغرس لتمريره، يأتي بصورة وكأن الولايات المتحدة تقول وتجزم بأن «أحداث الحادي عشر من سبتمبر تمت بتوجيه من الحكومة السعودية»، وفي هذا الكلام «حقارة» سياسية، ومساعٍ «ابتزاز صريح»، فالسعودية تتعامل مع الأمريكان بنزاهة في ملف محاربة الإرهاب.
تأتي هذه الخطوة في وقت تعاني فيه أمريكا من «حرج اقتصادي» تتكشف معالمه أكثر في تصريحات المرشح الرئاسي دونالد ترامب، إذ الأخير لم يتوانَ عن «تعرية» الوضع الاقتصادي والمالي الأمريكي بهدف «إضعاف» موقف منافسته هيلاري كلينتون.
فما يفعله ترامب إثبات لصدق المثل القائل «خذ الحكمة من أفواه المجانين»، رغم أن الواقع يقول بأن ترامب أكثر ضلوعاً في الاقتصاد من صناع السياسة الأمريكية، وهو أفهم منهم بالضرورة.
القصد مما أقوله، بأن أمريكا تعاني حالياً من أزمة اقتصادية كبيرة، فالدين العام في موازنتها هو الأكبر في تاريخ الدول، هو عجز بتريليونات من الدولارات، النصيب الأكبر للدائنين فيه للصين واليابان.
لذلك حينما انتهت إدارة أوباما، وهي أفشل إدارة في تاريخ الإدارات الأمريكية لدرجة تفوقها على إدارة جورج بوش، حين انتهت من الاتفاق النووي مع إيران، في حالة رأى فيها العالم «زواجاً مثلياً» معوقاً، سارعت أمريكا لكشف أدلة ومعلومات تبين ضلوع إيران في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وبيان ما فعلته طهران لعناصر تنظيم «القاعدة» من استقطاب وإيواء وحماية، ولذلك فإن رفع التجميد عن المليارات الإيرانية لم يكن بلا ضريبة، إذ قانون «جاستا» طبق بصورة أولية على مليارات إيران لتستقطع أمريكا منها حصة كبيرة.
ولأنها سياسة ابتزاز، فإن المحاولة لـ»سحب» الأموال من الدول التي تمتلك سيولة كبيرة، وتمتلك موارد نفطية هي الأكبر في العالم، كانت الخطوة الثانية، وهنا جاء الدور على السعودية.
لكن الفارق كبير، وتصريحات أوباما «القلقة» من الموضوع وما قد يرتبط به من رد فعل سعودي، رغم الشك في موقف أوباما، يكشف تماماً مدى التوجس من قيام السعودية بخطوات من شأنها «زلزلة» الاقتصاد الأمريكي قبل صناعة «هزة كبرى» في رأس صانعي السياسة هناك.
لو أرادت السعودية ضرب الاقتصاد الأمريكي وتجريعهم هناك أزمة مالية جديدة، لكفاها فقط سحب أموالها واستثماراتها التي تشكل نسبة كبيرة في الدخل الأمريكي وفي عائدات الاقتصاد.
بل لو أرادت أن تكسر الأمريكان وتوجعهم، فإن طريق التعاون القوي مع الصين واليابان وحتى روسيا «معبد» تماماً، ويكفي أن تنضم هذه الدول بالإضافة إلى تركيا في كتلة اقتصادية واحدة لـ»تذل» أمريكا وتصل لتقديم اعتذار حتى.
لكن بالعودة لقانون «جاستا»، فإن المفترض الآن «المعاملة بالمثل»، ومثلما تريد أمريكا سحب أموال من السعودية تحت «حجج غبية» مثلما التي ساقها الكونغرس بشأن اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، فإن العالم اليوم، وخصوصاً المتضررين من السياسة الأمريكية الخارجية يمكنهم المطالبة بتطبيق «قانون جاستا» خاص بهم.
مثلاً، من حق اليابان اليوم أن تدعو مئات آلاف العوائل اليابانية لرفع شكاوى ودعاوى تعويض على الولايات المتحدة التي قصفت هيروشيما وناجازاكي بالقنابل الذرية ونتج عنها مقتل 140 ألف شخص في هيروشيما و80 ألف شخص في ناجازاكي. بالتالي من حق هؤلاء مقاضاة الولايات المتحدة على هذه المجزرة، ولا يجب أن يعتد بالتقادم الزمني، لأن أمريكا بنفسها لم تعتد فيه بخصوص الاعتداءات التي ضربتها منذ أكثر من عقد ونيف.
وعلى نفس الغرار، من حق الفيتناميين المطالبة بتعويضات على قتلاهم في الحرب التي أشعلتها أمريكا على أرضهم، وطبعاً لا تنسوا العراق وما حل به من كوارث وقتل ومآسٍ بسبب «الحرب الزائفة» تحت مسمى «الحرب على الإرهاب»، وأضيفوا لها أفغانستان وغيرها من بقاع كان للأمريكان «أيادٍ سوداء» فيها.
الخلاصة أن أمريكا «واهمة» إن كانت تظن أنها القوة الأولى المهيمنة في العالم، وأن بمقدورها فعل أي شيء دون أن يكون هناك رد عليها.
قانون «جاستا» خطوة متهورة، ستورث كثيراً من الندم، وهي إنما تكشف عن حالة «مراهقة سياسية» اعترت أعضاء الكونغرس حتى قبل أن يحكم بلادهم «مجنون» مثل ترامب، والذي يحمل نفس الأفكار المتطرفة.