في هذا الجزء، سنسلط الضوء على «هوامير السراق في العراق»، وما الذي تجنيه الإدارة الأمريكية من حمايتهم؟من البديهي أن السياسي الوطني الشريف الغيور على دينه وأهله وعرضه والمتمسك بحرمة أرضه، لا يرضى أن يتعرض لهما أحد بسوء، وهو مستعد أن يقدم دونهما الغالي والنفيس بل ترخص الأنفس والأموال لأجلهما.لذا عمدت الإدارة الأمريكية ومن تحالف معها بإبعاد أي سياسي وطني كفء متزن، فشرعت مع بداية دخولها العراق عام 2003 بحل جميع المؤسسات المدنية وسمحت بإحراق جميع الوزارات والأرشيف المدني العراقي، بل حتى حطم جنودها والغوغاء الذين تدفقوا معهم من بعض الدول المجاورة المتاحف العراقية، وحطموا وسرقوا وهربوا نفيس مقتنياتها التي تعود لآلاف السنين، إلى دول العالم، ثم سارعت بملاحقة الوطنيين والكفاءات العراقية، وبالأخص العلماء العاملين في المجالات العلمية كعلماء الكيمياء والفيزياء النووية. ثم أعقبتها بحل المؤسسة العسكرية، والتي كانت لعقود تبسط الأمن في البلاد، وبتماسكها وانضباطها خلت الساحة العراقية من أن يطأها خائن وعميل.بعد هذا التمهيد والفراغ السياسي والمدني والخدمي والعسكري تقدم الصفوف إلى كراسي الحكم شرذمة من العملاء والسراق والمتخلفين، تساندهم فتاوى بعض المعممين، ليأخذوا مواقعهم بدءاً من مجلس الحكم الذي كان هو النواة الأولى لشكل الحكومة العراقية، وبقيت نفس الوجوه تتداول السلطة إلى يومنا هذا.ولكي تسيطر الإدارة الأمريكية ولتطلع على مجريات الأمور عن كثب، أقدمت على تعيين مستشاريها مع مجموعة خبراء في كل وزارة وهيئة حكومية، الزمت بموجبها الوزير المعني بعدم التصرف وإقرار أي شيء دون موافقته والرجوع إليه فاخترق بذلك الأمريكيون مفاصل الدولة الحديثة الفاسدة من مهدها.وبعد إتمام دعائم الحكم الجديد، مارست أمريكا الضغط على الدول ليتنازل أغلبها عن الديون الموجودة بذمة العراق وأنشأت بعدها وبرعايتها وبقرار أممي «صندوق إعمار العراق»، لتتدفق فيه مئات المليارات من الدولارات كمنح ومساعدات دولية، فمن هنا بدأ وضع حجر الأساس في الفساد، وفتح الباب على مصراعيه، للنهب والسرقة المنظمة، فذهبت جل تلك الأموال إلى جيوب المستشارين الأمريكيين والجنرالات والشركات الوهمية الأمريكية والعراقية بعقود مزيفة، وهي حبر على ورق ولم يعمر بمفهوم الإعمار مبنى واحد، ولم يبلط شارع من شوارع العراق المدمرة مكتفين بتجهيز الأثاثات المكتبية وصبغ المباني والأرصفة الجانبية!!الخطوة التي حققتها بذلك أمريكا أنها لم تنفق سنتاً واحداً من خزينتها، بل تم تحويل النصيب الأكبر من أموال الإعمار لجيوب أفرادها العاملين في العراق، لتعود تلك الأموال وتضخ في الأسواق الأمريكية، كما أنها روضت الوزراء والكادر المتقدم من ساسة العراق وأرسلت لهم رسالة ضمنية، بأنها لا تمانع من ثرائهم الفاحش مقنعي أنفسهم أنهم يستحقون ذلك لأنهم قد ضحوا شطراً من أعمارهم في المعارضة والمنفى، فلا ضير أن يؤمنوا مستقبلهم ومستقبل أبنائهم من خيرات بلدهم دون منة من أحد. لكن الإدارة الأمريكية كانت تهدف من وراء ذلك إلى ترسيخ الفساد لهدف بعيد المدى أكبر بكثير من كروش السراق وعقولهم النتنة، لكنه لا يتم ذلك إلا بعد التوريط وكل ذلك مسجل لديها ومراقب بدقة متناهية.بعدها تشكلت أول حكومة عراقية بقيادة أياد علاوي ليمارس طاقمه الوزاري نفس النهج الذي ارتضته لهم الإدارة الأمريكية، فبرز أفسد وزير في حكومته هو وزير الدفاع «حازم الشعلان»، الذي أبرم عقوداً وهمية ونهب ما يزيد عن 800 مليون دولار من خزينة الدولة ليتوسط في تحويلها أحد المصارف العراقية إلى حسابات شخصية في مصارف دولة عربية، ليتولى بعدها أشخاص كمجموعة عصابات منظمة لتحويلها ضمن شبكة معقدة إلى المصارف الغربية، حسب ما أوردت صحيفة «صنداي تايمز» اللندنية!!ثم أعقبتها حكومة الجعفري وبنفس الطاقم الفاسد وما يميزها عن حكومة علاوي أنه أضيف إلى مهامها تأسيس الطائفية وتشكيل الميليشيات الشيعية، وظهر يومها بوضوح الدور الإيراني. إلى أن تسلق السلطة بتوافق أمريكي إيراني سيء الصيت العميل المزدوج نوري المالكي، وتم تبادل الأدوار لنفس الطاقم الوزاري، ضمن المحاصصة الطائفية المقيتة، واستمر مسلسل النهب لمدة ثمان أعوان نهبت على إثرها مئات المليارات من الدولارات، ولا يزال مصيرها مجهولاً ولم يتنازل عن رئاسة الوزراء إلا بضغط أمريكي مخلفاً وراءه عراق مدمر وميزانية خاوية.وأبرز أعمدة الفساد في كتلته وحكومته بعده وبعد حاشيته ومقربيه في دورتيه المتعاقبتين هو وزير تجارته «فلاح السوداني» القيادي في حزب الدعوة الحاكم الذي تمكن من خلال فترة تواجده باختلاس المليارات من الدولارات في عقود وهمية من تموين الشعب ولما انكشف أمر الاختلاس وبعد محاولات مستميتة من المالكي وكتلته في مجلس النواب أوعز إليه بتقديم استقالته وتم نقل الدعوة المقامة من هيئة النزاهة إلى محاكم الديوانية، ليطلق سراحه بعدها بكفالة لا تتجاوز الـ 40 ألف دولار «خمسون مليون دينارعراقي» ليهرب بعدها إلى لندن كونه حاملاً للجنسية البريطانية بعد أن تدخلت الأخيرة لإنقاذ مواطنها المدلل!! نحن هنا نطرح نماذج لأبرز الفاسدين ولا يسعنا إطلاعكم على الكم الهائل والهوائل من فساد حكام بغداد، والأصح حرامية بغداد.ولما وصل الفساد حداً لا يطاق ابتدعت حكومة العبادي بإيعاز أمريكي بتفعيل دور مجلس النواب لامتصاص نقمة الشارع الذي يغلي حنقاً على حكامه وهو تمويه مفضوح بأنهم يحاربون الفساد ولا يرضوه، فعرضت على الجمهور مسلسلاً مضحكاً وسمجاً في استقدام الوزراء واستجوابهم تحت قبة البرلمان، فتتعالى الأصوات ويتم تراشق الكلمات والاتهامات ثم ينتهي العرض بإقالة الوزير دون مساءلته عن سرقاته، ودون أحالته إلى المحاكم وإصدار الأحكام بحقه ومطالبته باسترجاع السرقات لخزينة الدولة، ليرزم حقائبه بعدها ويدير أمواله وممتلكاته وقبلها قد سبقته عائلته المصونة ومقربيه. كل ذلك يجري بتخطيط ومراقبة امريكية.السؤال الذي يقفز امامنا وبالتاكيد يشغلكم ويشغل من له شأن في الملف العراقي وبعد الاطلاع على تلك الحقائق والأرقام المرعبة!! ما الذي تجنيه أمريكا من هذا الكم المخيف من الفساد المستشري ولماذا تحمي سراق العراق..؟ والحقيقة إنه بتغافل أمريكا وترك الحبل على الغارب فهي تحقق الكثير فهي: أولاً: هي قد ورطت حكام المنطقة الخضراء وكبلتهم بالتهم، فهي تملي عليهم بعد ذلك ما تريد ولتتدخل في الشأن العراقي متى ما يحلو لها، وتوقع العقود حسبما تشتهيه ومن ضمنها عقود النفط دون أي اعتراض والتي فصلناها في الجزء الأول من مقالنا.وعليه لا يمكن لأمريكا في الوقت الراهن السماح بمساءلة وملاحقة ومقاضاة أي سياسي عراقي داخل وخارج العراق بل على العكس توفر لهم الحماية لأنه لو تخلت عن أي واحد منهم لانكشف المستور ولانهارت العملية السياسية برمتها.ثانياً: ما الضير من استمرار النهب إذا كانت أغلب تلك الأموال تتحول إلى خارج العراق، وهي تتابع بدقة التحويلات المصرفية، وباستطاعتها وضع اليد عليها متى ما حصل طارئ. وهي إما أسهم في الشركات أو عقارات أو حسابات مصرفية والتي تمثل جل نشاطات ساسة العراق المالية بعد طرح «مصاريف حفلات المجون والملذات الشخصية»، وجميعها تنشط الحركة المالية وتقضي على البطالة في جميع الدول التي تمر بها الأموال العراقية المنهوبة، والتي أغلبها متحالفة مع الإدارة الأمريكية وتمر تلك الأموال وتخرج بعلمها.حقيقة موضوع الفساد والنهب المنظم في العراق ما بعد حقبة الاحتلال شمل جميع مفاصل الدولة ولم يستثنِ أحداً ولا يغطيه العديد من المقالات بل هو بحاجة إلى إصدارات ومجلدات وما تطرقنا له هو غيض من فيض!! والله المستعان.