أحببت هذا الأسبوع أن أستعرض للقارئ كتاباً متميزاً، للدكتور محمد شيا، العميد السابق لمعهد العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية. والكتاب هو سيرة ذاتية لحياة المؤلف، لكنه يستخدم تجربته الخاصة لينطلق إلى العام، وليروي تاريخ لبنان الذي عاصره. الكتاب يكشف لنا التناقض بين السنوات التي عاشها لبنان ما قبل الحرب، والسنوات التي عاشتها البلاد في الحرب. وبالنسبة للكاتب، الحرب نقيض الحياة، فالموت ليس نقيض الحياة، وبنظر الكاتب أنه ليس في الحرب أي شرف أو افتخار، فالحرب مهما كانت، فهي مقززة، وهي شر مطلق، أيما كانت أسبابها. ويبدأ الكاتب ليصف طفولته في بدغان القرية الصغيرة القابعة بهدوء واستكانة في أحضان جبل لبنان. يحكي عن بساطة العيش في تلك الأيام، كما يكشف عن أيام لبنان الذهبية، يوم كانت المناطق الجبلية مقصد السواح الأجانب. ثم ينتقل لسنوات القتل والموت وهي سنوات الحرب التي امتدت خمسة عشر عاماً. ويصور الكاتب وحشية الحرب التي عايشها ولكن في الكتاب ومضات من الأمل، ومنها شخصية أم شوقي التي فقدت ابنها شوقي، وبقصد الانتقام قام شباب من القرية بخطف عناصر من الجيش وقاموا باقتيادهم لأم شوقي، ولكن الأم بدل أن تفرغ الرصاص ترفعت عن الانتقام، واختارت التسامح قائلة «هل سيعيد قتلهم شوقي؟». وكم نحن في أيامنا هذه بحاجة لأناس مثل أم شوقي، أناس تفضل التعايش والتسامح على الانتقام في ظل الطائفية والمذهبية التي تنهش في مجتمعاتنا العربية. وبالرغم من سهولة لغة الكتاب الذي هو أقرب للرواية من الكتاب التاريخي، فالكاتب يأتينا بعبر وأفكار فيها كثير من الحكمة والعمق. فمثلاً يأسف الكاتب على لبنان فيقول «مسكين لبنان منذ استقلاله وهو في حالة حرب مستدامة بدل من تنمية مستدامة، معاناة حيناً ودمار حيناً أخرى. ومثلاً حين يصف قرية زوجته رغدة بعورتة التي أخذت نصيبها من إجرام الحرب فيصف شجاعة المسؤولين عن الضيعة الذين استطاعوا تهريب مئات من المدنيين إلى المناطق الآمنة ويحيي هؤلاء الأبطال المجهولين قائلاً «للأسف في الحرب تعطى حصراً لمن يقتل أكثر لا للذين ينقذون أرواح المدنيين أطفالاً ونساء وعجزة». ويتجاوز الكتاب الوصف العاطفي والتأملات الوجودية فيعطي تحليلاً منطقياً للأسباب الداخلية والخارجية التي تضافرت وأدت إلى حرب 1975 وحرب 1982.
ويفند الكاتب الأمراض التي تفتك بلبنان، مثل التعصب والطائفية، وقبول كرباج الأجنبي على صداقة الجار في الوطن، والقبول بالانسياق كالقطعان، وفقدان الجراة الأدبية، وفقدان التوازن المناطقي، كما يقول الدكتور شيا إن هناك ركائز يجب أن يتم عليها بناء الوطن، حيث تشكل تلك الركائز، طلاقاً مع الماضي، وهي، الفصل بين الدولة والدين، وحكم وسيادة القانون، والإدارة الرشيدة وهي العقل، فبعد أن ذاقت أوروبا الأمرين بسبب الجنون والطموح القومي والأيديولوجية فإنها ها هي اليوم ترتكز إلى العقل والمنطق في سياساتها. الكتاب يشكل مصدر مهم لمن يهمه أن يعرف عن تاريخ لبنان المعاصر وهو مكتوب بلغة سهلة للقارىء العام.