ربما كان استيعاب دونالد ترامب للسياسة الدولية مشوشاً أحياناً لكنه لاحظ مع هذا أن هناك قتالاً ينتظر الموصل. فالزعماء الأمريكيون والعراقيون يشيرون منذ أسابيع إلى أن حملة كبرى تدنو من ثاني أكبر مدن العراق وأكبر مركز حضري على الإطلاق خاضع لسيطرة تنظيم الدولة «داعش».
وفي مناظرته الرئاسية مع هيلاري كلينتون يوم الأحد قبل الماضي تساءل ترامب عن سبب وضوح مسؤولي الولايات المتحدة ونظرائهم العراقيين الشديد في تحذير الجماعة المتشددة مسبقاً بأنه يجري الإعداد لهجوم. قال «لم لا يفعلون ذلك بهدوء؟... لماذا لا يجعلونه هجوماً مباغتاً؟».
في الواقع إن الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين سبق وأن لجؤوا للحيلة عند الإشارة إلى الموقع الذي سيستهدفونه في هجومهم التالي. ففي وقت سابق من هذا العام أشاروا بقوة إلى هجوم وشيك على الرقة عاصمة «داعش» في سوريا. واتخذت الجماعة احتياطاتها وفقاً لذلك لتجد أن الهدف الحقيقي هو منبج التي سقطت في النهاية في أيدي قوات مدعومة من الولايات المتحدة يشكل الأكراد معظم قوامها في أغسطس الماضي بعد قتال شرس دام ثلاثة أشهر.
يحتمل أن شيئاً كهذا يعتمل الآن وإن كانت حملة الموصل ستطول إن عاجلاً أو آجلاً. والإجهاز على الجماعة المتطرفة هناك سيوجه ضربة قاصمة لشرعيتها وسيلقي بالشك على فكرة أن ما تسميه بـ«الخلافة» يحظى برعاية إلهية. وإعادة تأكيد السيطرة على المدينة الغالب عليها السنة لها نفس الأهمية بالنسبة للحكومة العراقية المتعددة الأعراق وإن كان يهيمن عليها الشيعة.
ويكاد يكون من المستحيل التحضير لمثل هذا الهجوم الكبير في الخفاء. كما أن التلميح بأن المعركة قادمة جزء محوري في الاستراتيجية. فالجمهور المستهدف لا يقتصر على قادة «داعش» الذين وردت بالفعل أنباء عن فرار بعضهم.. بل إنه ما يقدر بالمليون نسمة أو نحو ذلك الذين لايزالون داخل المدينة وقد يكون سلوكهم بنفس أهمية سلوك المحاربين في رسم المعركة النهائية.
وعادة ما تكره الحكومات والجيوش قتال المدن. فالمدافع يستفيد دوماً من القتال وسط الشوارع الضيقة والمدنيين الوجلين. ومثل هذه الحملات كما شهدنا في حلب بسوريا يمكن أن تتحول إلى حمامات دم طويلة وغير حاسمة.
وحين وضعت جماعة «داعش» أيديها على الموصل أول مرة في يونيو 2014 كان مقاتلوها يتحلون بالاستعداد الشديد. ولم يبدِ الجنود العراقيون الذين كانوا يفتقرون للأسلحة الثقيلة المضادة للدبابات دفاعاً يذكر في مواجهة العشرات من قذائف المدرعات الثقيلة التي أبادت نقطة تفتيش تلو الأخرى. وأرسلت الجماعة تسجيلات دعائية تصور ضرب أعناق رهائن إلى هواتف الجنود ورجال الميليشيات الذين اختفى كثيرون منهم.
ومن الواضح أن لجوء الحكومة العراقية والتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة وغيرهما من اللاعبين المتعددين مثل الأكراد العراقيين إلى مثل هذه التكتيكات لاستعادة المدينة أمر غير وارد وكذلك اللجوء لذلك النوع من القوة العشوائية التي نشرها الرئيس بشار الأسد وحلفاؤه الروس في سوريا. لكن معركة الموصل ستكون من نواحٍ كثيرة ساحة لاختبار شكل من المعارك يأمل الحلفاء أن يكون مختلفاً.
وبالنسبة للولايات المتحدة.. يعد العمل ضد «داعش» في العراق أيسر في جوانب عديدة منه في سوريا. فتحالفات واشنطن واضحة وهي تعلم أنها تريد استعادة البلاد من أجل حكومة بغداد. وذلك يجعل الموصل هدفاً أسهل من الرقة عاصمة «داعش» الأصغر ولو من الناحية الدبلوماسية. فالرقة إن هي سقطت قد يستعيدها الأسد. وإن نفذ المهمة المقاتلون السوريون الأكراد الذين تدعمهم الولايات المتحدة فقد يعمق ذلك الخلافات القائمة مع تركيا.
ومع هذا فإن من غير الواضح إن كانت حملة الموصل ستنجح. فاستعادة المدينة دون حدوث كارثة إنسانية ومن غير ترسيخ الانقسامات العرقية والطائفية القائمة ستكون بمثابة تحدٍ هائل ستبذل جماعة «داعش» قصارى جهدها لجعله أشد صعوبة.
وقوات الحكومة العراقية حسبما يقول الخبراء تحسنت تحسناً كبيراً خلال عامي الحرب مع «داعش» وبخاصة في معارك الشوارع الصعبة التي تكون المواجهة فيها عن قرب. وتخوض قوات عمليات خاصة من الولايات المتحدة وبريطانيا ودول أجنبية أخرى معارك في العراق وفي أجواء مشابهة منذ أكثر من عقد بل ويقاتل الأكراد العراقيون منذ فترة أطول.
والإعداد لمعركة الموصل يجري منذ عامين. وفي حالات كثيرة تتمثل الخطة في تكليف وحدات من خلفيات عرقية مختلفة بالعمل في أكثر أحياء المدينة شبهاً بها. وذلك يعني أن من سيقودون الهجوم على المناطق التي يغلب عليها السنة - والتي تشكل معظم الموصل - سيكونون من خلفيات مماثلة بدرجة كبيرة وكذا الحال بالنسبة للمكلفين بالعمل في المناطق ذات الأقلية الكردية أو المناطق الشيعية أو غيرها من المناطق العرقية.
وهذا يمثل اختلافاً كبيراً عن المعارك السابقة في الحرب وبالذات عند استعادة تكريت مسقط رأس صدام حسين عام 2015. فتلك المعركة كانت في طليعتها وحدات ميليشيا شيعية وجرت بالتنسيق الشديد مع الحرس الثوري الإيراني. وفي الأيام والأسابيع التالية كانت أنباء الأعمال الوحشية التي ارتكبت مع السكان وغالبيتهم من السنة عاملاً في زيادة التأييد لـ«داعش» في غيرها من المناطق السنية.
وتحتاج جميع الأطراف لإبداء مرونة لإنجاح خطة معركة الموصل. فتكتيكات جماعة «داعش» قد تتضمن هدم مبانٍ بأكملها في المدينة عند دخول القوات أو ربما استخدام الأسلحة الكيماوية المحدودة التي يعتقد أنها بحوزة «داعش». ويفتقر كثيرون من القوات العراقية للتدريب أو العتاد الكافي للتعامل مع مثل هذه الهجمات وإن كان هذا في سبيله للتغيير.
وبذلت الجماعة المتطرفة كل ما بوسعها للسيطرة على حرب المعلومات داخل المدينة. وانقطعت اتصالات الإنترنت بدرجة كبيرة وإن ظلت هناك مجموعة من الخيارات لمن هم داخلها للإبقاء على التواصل مع العالم الخارجي. وكما حدث في بقاع أخرى من سوريا والعراق جرى استهداف صحافيين محليين ومراقبين لحقوق الإنسان وأعدم بعضهم وروع آخرون لإسكات أصواتهم. وأسقط التحالف المدعوم من الولايات المتحدة منشورات وأذاع نشرات لكن من الصعب تحديد مدى جدواها.
وفي حلب يشتبه كثير من المراقبين في أن القوات السورية والروسية تحاول عن عمد دفع السكان المحليين للفرار من خلال استهداف المستشفيات ومواقع تسليم المعونات. ويبدو ذلك غير وارد في الموصل لكن الاستراتيجية العامة ستظل إقناع السكان بالهرب -رغم ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر- بحيث يمكن مساعدتهم من خلال العملية الإنسانية الضخمة الجاري الإعداد لها خارج المدينة.
لكن الخطر الحقيقي يتمثل في انهيار تلك الخطط تدريجياً. فكلما طالت المعركة زاد احتمال أن تجعل الحكومة العراقية الموقف الصعب بالفعل أكثر تعقيداً من خلال الابتعاد عن واشنطن والتوجه لأي حلفاء أو قوى أخرى تجدها أمامها. وقد تكون هذه القوى إيرانية وجماعات شيعية مرتبطة بها أو ربما حتى تركيا التي لها الآن قوات محدودة في العراق والتي تنزلق أكثر في سوريا.
وإن كان للتاريخ أن يعطي مؤشراً فقد ترد جماعة «داعش» أيضاً على حملة الموصل بهجمات إرهابية في أماكن أخرى سواء داخل المنطقة أو خارجها.
ونظراً لهذه المخاطر.. لن يكون مستغرباً تأجيل الحملة مع ترك المتشددين يديرون المدينة على أمل أن تفقد الجماعة سيطرتها على الأمور تدريجياً. لكن ذلك لا يبدو مرجحاً. فالحكومة العراقية بالذات بحاجة لإثبات نفسها أيضاً وذلك يعني المواصلة مهما كان الثمن.

* كاتب مقالات في «رويترز» ومتخصص في الشؤون العالمية - عضو منذ عام 2016 في الجيش الاحتياطي البريطاني وفي حزب «العمال» بالمملكة المتحدة