حين يتطور الزمان وتقفز العلوم قفزات هائلة فوق مستوى الخيال، وحين تتغير أدوات العصر بشكل ثوري، يكون لزاماً علينا أن نواكب كل هذه المتغيرات العملاقة لنكون قريبين جداً من معطيات ومتغيرات هذا الزمن، أمَّا حين نتجاهل كل هذه الأمور ونصر على أن نعيش الماضي بكل تفاصيله وخيباته فإن التخلف ستكون خاتمتنا ومصيرنا وحليفنا.
إن أول من يجب أن يستوعب حجم هذه التغيرات التي أصابت العالم والمتغيرات التي طرأت على كافة العلوم حتى أنه لم يسلم منها علم الكلام والفلسفة، هم رجال الدين. فغالبية هؤلاء من الرجال الذين مازالوا يعيشون الماضي بكل تفاصيله ولا يريدون إجهاد أنفسهم في قراءة الواقع ومدى قدرة العلوم الحديثة على إحداث ثورات علمية وفلسفية وتكنولوجية خطيرة، ستكون إنتاجاتهم ومخرجاتهم الفقهية والفلسفية لا تتناسب مع هذا العصر المشحون بالإنجازات العلمية والنهضات الحضارية والقفزات المعرفية، وعليه سيكون دورهم لاغياً بسبب تخلفهم عن قراءة الواقع فضلاً عن فهم المستقبل، وسيكون دورهم حينها مقتصراً على قضايا أُشبعت إشباعاً منذ مئات السنين ولن تنفعهم أو تنصرهم بقية السنوات الآتية ولا الأجيال القادمة.
من الضروري على رجال الدين مواكبة العصر والاندماج فيه باعتباره مكوِّناً حتمياً لبقاء الإنسان واستمرار وجوده وفق قوانين الحياة وسننها، ولهذا لن يكون كلامنا غريباً بقدر غربة دور رجال الدين في فهم معطيات كل هذه المتغيرات الشرسة التي أطالت كل العلوم والمعارف، وفي النهاية سيجدون أنفسهم مضطرين للانكفاء والانزواء جهة الظلام وتفريخ مجموعات خطيرة من الظلاميين والاحتماء بالماضي لنصرة المستقبل، وهذا أخطر ما في هذه القضية، فحين تَعْزل العلوم والمعارف الإنسانية رجال الدين عن مقاربة فهم هذا العصر، أو فلنقل حين يعزل رجاء الدين أنفسهم عن تلك العلوم والمعارف فإنهم لن يوَفَّقُوا في أن يقودوا الناس حتى في ميادين بحثهم التي تتعلق بالفقه والتفسير والعبادات والمعاملات وغيرها، لأنهم لم يدركوا أهمية العصر ومدى هيمنته المطلقة على وعي هذا الجيل والأجيال القادمة.
نحن لا نرفض قراءة التاريخ ونصوصه، ولسنا ضد التراث وفهمه بالصورة التي يمكن أن تشكل بعض الإضافات لوعي الإنسان عبر الاستفادة من قوانينه بعد تنقيحها، ليست هذه قصتنا أو أزمتنا، إنما أزمتنا الكبرى تتشكل في القطيعة التي أوجدتها غالبية رجال الدين بين العلوم والمعارف الحديثة وبين الدين، والذي يعني بشكل آخر انقطاع التواصل الفعلي بين المجتمعات البشرية الحديثة وبين الدين. هذه الفجوة التي يمكن أن تُحْدِثُها غيبوبة رجال الدين عن عصرنا الراهن كفيلة إمَّا بإسقاط الدين أو إسقاط الإنسان، وفي كلتا الحالتين، ستكون النتيجة واحدة، وهذا ما يجب أن يستوعبه رجل الدين الذي يصر بكل قوة على ألاّ يخرج من كهفه الماضوي حتى مع يقينه التام بوجود فضاءات غنية بالمعارف والعلوم يمكن أن تثري المستقبل، فصار هذا الوعي متلازمة له دون أن يدرك هذا الأمر، وهذا أخطر ما يمكن أن يقال في هذا الموضوع.