انطلقت ساعة الصفر معلنة بدء معركة ما يسمى بـ «تحرير الموصل» ومن عدة محاور، والمثير للسخرية أن من يرابط اليوم على أسوارها حاملين رايات التحرير وبكل صفاقة هم نفس الوجوه من القيادات الطائفية التي مارست الخيانة الكبرى يوم أن سلمت مقدرات تلك المدينة وفرت ذليلة تاركة وراءها معداتها يوم أن سلمتها لبضع مئات من عناصر تنظيم الدولة «داعش» وبموجب صفقة حقيرة وضيعة.
معركة الموصل تختلف كلياً عن كل تلك المعارك التي وقعت على أرض العراق بعد احتلاله لما لهذه المدينة العريقة من أهمية جغرافية وتاريخية، وهي تمثل أكبر محافظة عراقية بعد العاصمة بغداد، حيث يقطنها مع اقضيتها ما يربو عن 3.5 مليون نسمة، يمثل المكون العربي السني فيها الثقل الأكبر.
وليس من باب المصادفة أن يتم اختيارها لتكون عاصمة الخلافة لذلك التنظيم.
كذلك ليس مصادفة أن تنطلق منها المعركة وفي هذا التوقيت وبعد سنتين من الخراب والدمار الذي لحق بها وبسكانها.
ولما تمثله هذه المدينة من أهمية فلقد تحركت القوات الدولية والبوارج والأساطيل والميليشيات محيطة بها من كل حدب وصوب والجميع زحف إليها وهو ليس حباً في المدينة العريقة وأهلها وتخليصهم من ظلم «داعش».
فلكل دولة مشروعها وأجندتها في العراق والذي سيبدأ فور اقتحامها وطرد «داعش» من ثناياها.
فالفرنسيون قدموا بحاملة الطائرات «شارل ديغول»، وصرحوا أنهم قدموا للإشراف على إنشاء محافظة للمسيحيين في سهل نينوى تحت رعايتها!!
والإيرانيون قد رفعوا رايات الثأر بحشدهم وميليشياتهم ينتظرون الفرصة الذهبية للانقضاض على المدينة واستباحتها لأنها بزعمهم أحد ضيعات «يزيد»، وهي تمثل العقبة الكأداء لمشروعهم التوسعي في العراق، ولتكون حلقة وصل وممراً مريحاً لقواتها الى سوريا، وكذلك للتسارع في بسط نفوذها على تلعفر، وإعلانها محافظة شيعية، لتكون عامل ضغط وشوكة في خاصرة السنة فيما لو فكروا لاحقاً بإعلان إقليمهم السني.
وسبق أن نوهنا في مقال نشرناه قبل شهرين، ومن هذا المنبر الحر، وتحت عنوان «سيناريو الموصل بعد «داعش»»، أن الإدارة الأمريكية الحالية وبزعامة الحزب الديمقراطي سيعجلون وقبل نهاية شهر أكتوبر الحالي في التحرك لاستعادة الموصل من يد التنظيم، ولن يغادروا البيت الأبيض بسهولة وسيفعلون كل ما بوسعهم للفوز لفترة انتخابية ثالثة وستكون معركة الموصل هي أكبر دعاية لهم قبل توجه الناخب للصناديق الانتخابية وأنها ستكون بمثابة مهر مختوماً بالدم للعجوز كلينتون لزفها إلى أريكة البيت الأبيض.
«لكن السؤال الذي يراود الكثير، هل الإدارة الامريكية جادة في التخلي عن تنظيم «داعش» وقياداته؟».
فكما حصل في المعارك التي وقعت في تكريت والأنبار والفلوجة العراقية كان يشدد الخناق على تلك المدن من جميع محاورها ويترك لهم منفذاً واحداً ليتسللوا منه تحت الحماية الجوية إلى جهة مرسومة لهم.
ثم يتم اقتحام تلك المدن وتنتهي المعارك بدك وحرق تلك المدن وإذلال أهلها ولا نشاهد قتيلاً أو أسيراً واحداً من ذلك التنظيم، وكل الذي يعرض على شاشات الفضائيات من أشلاء وجثث متفحمة هم لرجال لا يوجد دليل قاطع على أنهم من قيادات ذلك التنظيم.
ولا نتوقع أن أمريكا ستغير من استراتيجيتها، فهي ستضغط بإخراج قيادات التنظيم خارج الموصل، وبنفس الطريقة وربما ستطيح ببعض من رؤوسه الكبار وقد يكون البغدادي على رأسهم كما حصل مع الزرقاوي ومن قبله بن لادن تمويها واستبدالاً للقيادات بأخرى لتأسيس لمرحلة جديدة.
لكن المعضلة التي ستعترض طريق الأمريكان اليوم هي الوجهة التي سيتم نقل قيادات التنظيم والقوة الضاربة إليها!!
فروسيا تراقب بحذر ما يجري وصرحت مراراً أنها لن تسمح لفلول «داعش» الدخول إلى الأراضي السورية. كذلك تركيا تراقب حدودها عن كثب!!
لذا فالخيار البديل لتلك المجاميع هو اعادة توزيعهم ونشرهم داخل الاراضي العراقية وربما قد وقع الخيار هذه المرة على محافظة كركوك لخلط الاوراق وللضغط على جميع الجهات ولارباك الوضع المتأزم اساسا، وخلط الاوراق وتوزيع الادوار من جديد، خصوصا ان الحويجة وهي اكبر اقضيتها وهو القضاء الفاصل بين نينوى الملتهبة وكركوك المضطربة والتي يقطنها العرب وهي لاتزال في قبضة التنظيم، ليكون محط تجمع وانطلاق اليها، ليبدأ من هنالك فصلاً ارهابياً جديداً. وليس لنا إلا الترقب وحبس الانفاس لمجريات قد تكون كارثية ليس على العراق فحسب، بل ربما ستجر المنطقة إلى حروب طويلة قد تنزلق معها دول في صراع طاحن يبدأ فصوله بعد دك الموصل.