«من هو؟ مجرد مراسل، وظيفته لا تتعدى كونه يذهب بالأوراق ويأتي بها! راتبه بسيط جداً وقد كان قبلها «فراش» - عامل نظافة – ينظف دورات المياه، حتى من الله عليه بكرمه وأصبح مراسلاً»، تعمد أن يقولها أمام الحاضرين في مكتبه وهو قريب منهم حتى يسمعها، ويتألم ظناً منه أنه سيتذكر مكانته والفارق بينهم وبينه!
ابتسم أحد الجلوس وقد بدا أن الموقف قد استفزه – وكأن الله سخره ليرد على هذا المغرور – وقال له: نعم هو مجرد مراسل ومهنته بسيطة جداً، وقد يحتقرها الكثيرون من أمثالك، ولكن له مهنة أخرى لا تعلم عنها ولا تخطر على بالك! أحياناً ترى إنساناً بسيطاً وفي مرتبة عمل متواضعة ولكنه عند الله عزيز وبين الناس كبير، كبير جداً بمكانته وأهميته وبالتأكيد أكثر أهمية من أولئك المتوسدين مكاتبهم كمدراء ومسؤولين كبار بل المحظوظ من يتعرف عليه أتعلم لماذا؟ لقد رزقه الله فطنة استغلال دخوله على كبار المسؤولين والوزراء والاحتكاك المباشر بهم أحياناً، كي يخبرهم عن حاجات الناس ممن يعرفهم أو يهرعون إليه ويمنحهم أوراق العاطلين عن العمل، هو أيضا يوزع الصدقات، وقد رزقه الله بالقبول والثقة العمياء عند المسؤولين، لذا هم لا يثقون إلا به وهم يخرجون صدقاتهم إيماناً منهم بأنه سيوصلها للمحتاجين فعلاً، كما أنه يرشدهم لأولئك المتعففين من طلب الخدمات أو لهم مصالح عمل معطلة، بل يحدث أحياناً حتى أنهم يسألونه عن أمر كاستشارة. لقد أوجد له الله دروب خير كثيرة، لذا وعلى راتبه البسيط هذا الذي تسخر منه وتحتقره تجد في كل جوانب حياته، الله رزقه البركة والقبول عند الناس لكونه حريصاً على منفعتهم! قال رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام «من استطاع منكم أن ينفع أخاه فليفعل».
كم من إنسان مكانته بسيطة بين الناس وعظيمة عند الخالق، مهما ارتفعت مكانتك الوظيفية ترتيبها في السماء، وعند الله سبحانه الأمر يختلف، عن هذه الدنيا، فهناك الرتب الوظيفية تختلف ومن بين أكثر الوظائف مكانة وعلواً، تلك التي تخدم من خلالها الناس وتقضي حوائجهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبي لمن جعله مفتاحاً للخير ومغلاقاً للشر وويل لمن جعله مفتاحاً للشر ومغلاقاً للخير».
كما لا ننسى فضل من يشغلون وظائف تحمي أمن الناس واستقرار أوطانهم من أعداء الإسلام والعروبة، كرجال الأمن والعاملين في المجالات الأمنية»، عينان لا تمسهما النار، عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله، «لذا فالعاملون في هذه المجالات الخطيرة ذات الظروف الصعبة يدركون أن وظائفهم هذه لا يؤدونها من باب الواجب الوظيفي فحسب، إنما من باب واجب الدفاع عن الدين وتحصين الوطن من ان يقع في ايدي أعداءه من إعداء الدين والمسلمين، ولذا هم تنطبق عليهم قاعدة استلام راتبين، راتب دنيوي وراتب يثقل موازينهم بالحسنات ويشفع لهم بالآخرة.
تقول لصديقتها: لقد جاءتني فرص عمل كثيرة وفي مراكز مهمة بالدولة، ولكني لا أستطيع التخلي عن مهنة المحاماة التي أحبها، فمن خلالها أعيش مع الناس معاناتهم وقضاياهم ومآسيهم، وأكبر إنجاز أشعر به وأنا أراهم ينتصرون على الباطل أو تعاد لهم حقوقهم أو تحسم أمورهم في القضايا الإنسانية الصعبة والمؤثرة، لا أستطيع أن أتخلى عن هذا العالم لأنني أشعر أنه بات جزءاً مني!
تتأملها صديقتها وتتفكر في كلامها، هي تشغل مهنة صعبة جداً، تستهلك الكثير من طاقتها وأعصابها، فهي تقضي الوقت كله في محاولة حل القضايا وإيجاد المداخل القانونية، تشعر أن الله منحها حكمة النظر إلى الوجه الآخر من الوظيفة، إلى أي لوظيفة التي تتقاضى عليها أكثر من راتب، راتب دنيوي وراتب للآخرة، يضاف إلى رصيد حسناتها، ولعل هناك راتب آخر أيضاً وهو دعاء الناس لها، وتذكرهم إياها بالخير، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة».
كثير من الوظائف تنطبق عليهم قاعدة «راتبين في وظيفة واحدة»، لكن قليل من ينتبه أن يسعى لفتح نوافذ الخير من خلالها ويجعل نيته خالصة لهدفين، أهمها أن يستفيد منها للآخرة قبل الدنيا وتجعله متقدماً في مرتبات الأجر عند الله سبحانه وتعالى وأن العمل عبادة لا لهدف واحد وهو الحصول على راتب والتقدم الوظيفي الدنيوي فقط.
{{ article.article_title }}
{{ article.formatted_date }}