سعت الدول الكبري منذ سنوات طوال إلى إنتاج خطاب إعلامي وثقافي يكرس هيمنتها على بلدان العالم الثالث، سواء في الحقبة الاستعمارية العسكرية أو الحقبة التجارية معولمة السياسات والاقتصاد، وذلك لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية ونشر أيديولوجيتها عبر آليات الإعلام الدولي التقليدية منها والحديثة، والتي اهتمت بالترويج لمفاهيم براقة كالديمقراطية الغربية وحقوق الإنسان أو التغيير في هذه المجتمعات، إلى أن انتهت الآن بتسويق موجة من الإحباط والتشاؤم والنقد غير البناء عبر معالجاتها الإعلامية لقضايا العالم الثالث ومشكلاته، لاسيما تلك المعالجات التي تستهدف فئات الشباب في هذه البلدان.
فقد سعى الإعلام الدولي عبر وسائله الكونية ووكالات أنبائه الضخمة والشركات المتعددة الجنسية بالإضافة للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي في الآونة المعاصرة إلى تصدير ثقافته ونموذجه الحضاري وفلسفته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، باعتبارها النموذج المثالي الواجب تبنيه في العالم أجمع، وتبنت في ذلك عقيدة مفادها أن من يخرج عن هذا النموذج فقد جانبه الصواب والرشد السياسي، ومن ثم بات مجالاً للنقد والهجوم والتصنيف من قبل وسائل الإعلام الدولية ومنظمات المجتمع المدني ذات النشاط الدولي.
ولذا ركزت هذه الوسائل على تصدير المنظومة الحضارية الغربية، كالحريات الخاصة والملكية الفردية والمنافسة وثقافة الاستهلاك بهدف تحقيق الأرباح التي هي معيار النجاح أو الفشل بالنسبة للنظام الرأسمالي، وهو ما أفرز أزمتين عالميتين في المجال الاقتصادي، الأولى، في منتصف ثلاثينات القرن العشرين، والثانية، في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، والتي مازالت تلقي بظلالها السلبية على العالم أجمع حتى اليوم، وهو ما جعل النموذج الغربي محل مراجعة شديدة واجتهدت الدولة الغربية بمحاولات مضنية لإنقاذ نموذجها وسعت لترميم مشكلاته بأي شكل، حتى ولو كان باتباع سياسات اشتراكية كانت تهاجمها في السابق، ومن بينها تدخل الدولة لإنقاذ الشركات المتعثرة والمنهارة من خلال ضخ أموال فيها منعاً لانهيارها، وحتى لا تقود لانهيار المشروع الرأسمالي بكامله، تلك السياسات التي كانت الدول الغربية تهاجم من يتبناها من دول العالم الثالث، بل وكانت تشترط عليه التخلي عنها إن أراد أن يحصل على مساعدتها، أو أن تقدم له وصفات الإصلاح الاقتصادي الجاهزة لديها، ولم تتوقف عند هذا الحد، بل امتد تدخل هذه الدول لأمور لم تكن لتخطر ببال منظري الليبرالية، منها إجراءات ضد الحريات مثل التنصت على المكالمات الهاتفية ومراقبة المواقع الإلكترونية والمواجهات العنيفة ضد المتظاهرين الرافضين للعولمة والاحتكارات، وكلها إجراءات لا تجرؤ دولة من دول العالم الثالث على تطبيقها، وإلا مورست ضدها حملات تشهير دولية من جانب الإعلام الدولي ومنظمات المجتمع المدني الدولية، ونزلت عليها بوابل من التهم الجاهزة لمن يخالف توجهاتها في السياسة والاقتصاد.
ثم أضافت وسائل الإعلام الدولية آلية جديدة في معالجاتها الإعلامية خلال العشرين عاماً الماضية تتمثل في إنتاج خطابها الإعلامي الداعي إلى ما يعرف بـ»التغيير» في العالم الثالث، تحت مظلة نشر المزيد من الحريات وحماية حقوق الإنسان ودربت في ذلك العديد من أعضاء جمعيات المجتمع المدني في العالم الثالث، عبر الزيارات والدورات وورش العمل وغير ذلك من الفعاليات التي تتم الدعوة لها في بلدان العالم المتقدم، ولذا فقد مهدت الأرض لوجود مناصرين لهذه الأفكار في بلدان العالم الثالث واستطاعت هذه المنظمات أن تنفذ لمفاصل دول العالم الثالث، وترصد كثيراً من معلوماتها وإحصائياتها، واستطاعت أن تحقق أهدافها في بعض الدول وسادت الفوضى التي بشرت بها وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس في ورقتها الشهيرة التي نشرتها عام 2002، إلا أن الفشل حالفها في دول أخرى، إذ انكشف للجميع أنه لم يكن هدفها التغيير من أجل التطوير بقدر ما كان من أجل تحقيق أهدافها السياسية والنيل من أنظمة الحكم في هذه البلدان، واستطاعت الدول المستهدفة أن تلملم أوراقها بسرعة وتتغلب على أزماتها بحكمة قادتها الوطنيين الذين اجتهدوا في إعادة الروح لمجتمعاتهم والعودة بها إلى ما كانت عليه من حالة الاستقرار.
ونظراً لأن بلدان العالم الثالث وخاصة البلدان العربية قد شهدت معدلات نمو عالية خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين بلغت في بعض الدول العربية إلى 7%، وشهدت بالإضافة لذلك العديد من المشروعات الإصلاحية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وزادت معدلات الرفاهية والدخل الفردي والقومي بل وتمتعت بعض هذه الدول بوجود فائض مالي سعت لادخاره في صناديق خاصة للأجيال القادمة، فقد كان هناك مخطط عالمي وإقليمي بإيقاف هذا التقدم وشغل هذه المجتمعات بأجندات داخلية توقف هذا النمو المتسارع. ورغم ذلك فشلت سياسة التغيير في كثير من هذه الدول بسبب وعي الشعوب والتفافهم حول قادتهم الوطنيين وبرز دور قادة الرأي والمصلحين من أبناء هذه الدول للحيلولة دون وقوعها فريسة للفوضى والانهيار رغم تعدد هذه المطامع الإقليمية والدولية، ورغم العديد من المخططات التي تستهدف النيل من هذه الدول وبالتالي فشلت سياسة التغيير حتى في الدول التي نالت منها هذه المخططات.
إن فشل هذه الآليات في كثير من الحالات قد دفع الإعلام الغربي للسعي لإنتاج خطاب إعلامي جديد عبر وسائل الإعلام التقليدية ووسائل التواصل اجتماعي، كفضاءات لتكريس حالة من الإحباط والشك لدى شباب العالم الثالث في كل القرارات والسياسات التي تتخذها الأنظمة الوطنية للقفز فوق المشكلات التي أفرزتها الظروف السياسية خلال السنوات الخمس الماضية بحيث تكون هذه الحالة هي الآلية الجديدة لتحريض الشباب على مجتمعاتهم وإيقاف نمو هذه المجتمعات وتقدمها مرة أخرى، وهو ما نتعرض له في الجزء الثاني من المقال. يتبع.
* أستاذ الإعلام المساعد - جامعة البحرين