عندما تجد أن من يعتبرون أنفسهم في «ثورة» يتركون ما يفترض أن يركزوا عليه، وينشغلون بقصص جانبية وبالقيل والقال ويعتبرون اختلافاً في الرأي بين مسؤولين في الحكومة أو عضوين في مجلس النواب «هوشة» سيترتب عليها أمور كثيرة ويصنعون من ذلك أخباراً ويدبجوا المقالات، وتفرد له فضائياتهم «السوسة» مساحات واسعة في برامجها المحرضة والمسيئة وتمتلئ مواقع التواصل الاجتماعي بمئات أو آلاف التغريدات المعلقة على الخبر، عندما تجد ذلك أو حتى شيئاً منه فاعلم أن أولئك ليسوا إلا داخلين على الخط وأنه «ليس لهم في الغنم تيس»، فمن يعتبر نفسه في ثورة ينبغي أن «يثور» على هكذا أمور وهكذا تفكير وهكذا سلوكيات وينشغل بما يعينه على تحقيق أهدافه «الثورية».
ترى ما قيمة خبر اختلاف في الرأي بين نائبين أو بين نائب ورئيس مجلس النواب، وإن وصل إلى حد التلاسن ورفع دعاوى ضد بعضهما البعض في مراكز الشرطة؟ ما قيمة مثل هذا الخبر في وضع كهذا الذي صار يعاني منه من اعتبر نفسه في «ثورة»؟ لا يمكن اعتبار هؤلاء «ثوار» وهم لا يختلفون عن غيرهم في سلوكياتهم وفي تقييمهم للأخبار والحوادث. «الثوار» هم الذين ينشغلون بالتفكير في سبل تحقيق أهدافهم ويعملون بجد كي يحققوا المكاسب لمن ثاروا من أجلهم وليسوا الذين ينشغلون بما ينشغل به الحريصون على «شاي الضحى».
المتابع للموضوعات التي يتم تناولها في الفضائيات «السوسة» والتغريدات التي يتم نشرها يومياً في مواقع التواصل الاجتماعي والمقالات التي تنشر في المواقع الإلكترونية التابعة لتلك الفضائيات ومثيلاتها لا يجد صعوبة في استنتاج أن من اعتبروا أنفسهم ثواراً ليسوا ثواراً، ولا يعرفون ما هي الثورة ولا مهام الثوار، ومن يرصد سلوكياتهم يتأكد أن هذا الاستنتاج صحيح ودقيق، فعندما لا يكون هناك فارق بين الثوار وغير الثوار في طرق التفكير والسلوكيات والاهتمامات فإن هذا يعني أن الجميع لا علاقة له بهذه المفردة.
دونما شك تساعد مثل هذه الأخبار على التحريض والشحن، لكن مردودها السلبي أكبر، خصوصا عند من يعرف ما ينبغي أن يتحلى به الثائر من أخلاق وما يهتم به من أخبار وموضوعات. نحن إذن أمام إشكالية كبيرة ملخصها أن البعض اعتبر نفسه في ثورة وأطلق على نفسه صفة ثائر لكنه ظل يمارس سلوكيات لا يمكن أن يقوم بها ثائر ومن يعتبر نفسه في ثورة.
واحد من التقارير «الثورية» الذي انتشر أخيرا تناول الاختلاف في الرأي بين أحد النواب ورئيس المجلس، واعتبره قصة ما بعدها قصة، وحدثا غير عادي، وأطلق كاتبوه خيالهم فقالوا عن النائب ما قالوا من كلام ناقص، وقالوا عن رئيس المجلس ما قالوا من كلام معدوم القيمة. فعلوا ذلك من دون أن يدركوا أن هذا ليس دورهم وأنه ينبغي أن ينشغلوا بما يفيدهم لا بما يسيء إليهم ويظهرهم على الشكل الذي يفترض ألا يكون لائقاً بهم، فهم «ثوار»، والثوار الحقيقيون ينشغلون بالأهم والمهم لا بمثل هذه القصص والتافه من الأمور.
هذا وغيره من سلوكيات يمارسها أولئك «الثوار» تقلل من شأنهم وتظهرهم على حقيقتهم وتؤكد أن هذه الصفة «تخب عليهم»، فمن يعتبر نفسه في ثورة لا يشغل نفسه بمثل هذه الأمور ولا يؤلف القصص من خبر سمعه أو حدث رآه، ويعرف جيداً أنها لا تفيد في ما هو يسعى من أجله، فمن ينشغل بمثل هذه القصص ويعتبرها انتصاراً له وهزيمة للآخر يؤكد أنه دخيل على الأمر وأنه لا يدرك ما يقوم به ولا يعرف ما ينبغي أن يقوم به، ولا يستحق الثقة. القيل والقال والردح والدخول في مهاترات ليست من صفات «الثوار».