«الحمد لله أن عدد من وقع وثيقة الاتحاد الخليجي قليل وهذا يؤكد أن الأكثرية لا تنطلي عليهم الحركات الكرنفالية»!!
رسالة وصلتني لا أشك لحظة في نقاء سريرة صاحبها أبداً، ومثله بعض من فلول التيار الديمقراطي الذي اعتزل العمل السياسي وأبقى فقط على العلاقة الاجتماعية مع رفاقه، ومثل هذا الأخ الكريم هناك شريحة أخرى من الطيبين اعتزلت الاهتمام بالشأن العام لأنها وجدت نفسها بين نارين!!
نار الشطط الذي ارتمت به جماعتهم وارتهنت به للتيارات الدينية، وقد رفضوا هذا الخيار، ونار عدم وجود البديل المقنع الآخر لهم، فآثروا الاعتزال.
المشكلة في تلك القوالب الجامدة التي تبني تلك الشرائح الطيبة مواقفها بناء عليها، إذ حصرت تلك الجماعة نفسها وحشرت الجميع في قالبين لا تعرف ثالثاً لهما، وهذا حالنا جميعاً مع الأسف، فالتصنيفات عندها إما أبيض أو أسود، إما معنا أو ضدنا، إما معارض أم موالٍ، إما مناضل أو مطبل مرتزق، وبالتالي فإن تصنيف المواقف لا بد أن يكون مربوطاً بتصنيف الأشخاص والخلط بينهما، فمن صنف «مطبلاً» لا يمكن أن ينظر في موقفه أو سلوكه إلا تطبيلاً أياً كان ذلك السلوك، ولا ينظر لمواقفه وسلوكه إلا بتلك النظارة، والعكس مع كل سلوك وموقف يتبناه «المناضل»، فكله نقي وكله صحيح وكله صادق!!
فأي قيد وضع على العقل هذا الذي يحجب عنه قياس الأمور بالمنطق لا بالتصنيف؟ هل التربية الحزبية هي من وأدت المنطق من التفكير والقياس؟ وهل غياب المنطق في التربية الحزبية هو التفسير لتلك المواقف الجامدة التي لا ترى المياه التي تسير بين الوديان وتجرف معها الجميع، فتبقي تلك الأحزاب خارج نطاق الواقع؟
الوثيقة بسيطة جداً، وواضحة جداً ومباشرة جداً، تقول يا حكام دول الخليج أعلنوا الاتحاد بين دولنا، ليس بها أية إضافة أخرى، ولا مطالب خفية، ولا تطبل لأحد، والاتحاد مطلب الجميع وأولهم التيارات التقدمية التنويرية القومية الاشتراكية اليسارية الديمقراطية العروبية، ومثلهم بقية الناس والبشر الطبيعيين الخالين من أي عقد أو شوائب، كلنا نتمنى اليوم الذي نرى فيه الاتحاد، فإن قدم هذا الطلب وتحرك به وبادر به شخص أو جهة من التصنيف الآخر اعتبر كرنفالاً؟ ولو أن جماعتهم هي من عرض الوثيقة التي تطالب الأنظمة الخليجية بالاتحاد فوراً لمواجهة تحديات البقاء التي تتعرض لها كياناتنا لكانت الوثيقة بيضاء ونقية وتستحق التصفيق؟ ما الفرق؟
لو على الناس الطيبين البسيطين العاديين لوقفوا في الشارع ونادوا بالسماعات لأنظمة دول الخليج «اتحدوا» «اتحدوا فقد هرمنا ونحن ننتظر» ولو وجدوا أي تجمع أو كيان أو فرد أو مؤسسة يرفعون تلك المناداة لانضموا لهم.
ورغم أن العدد الذي وصل إلى عشرة آلاف فرد و150 مؤسسة عدد جيد، إلا أنه كان بالإمكان أن يكون أكثر لو أن الناس وضعوا احتمال سماع هذا النداء، وفي ظني أن تقاعس العديد عن التوقيع لم يكن بسبب الجهة التي تنادي بتلك الوثيقة أو بالطريقة التي وزعت بها تلك الوثيقة، بل بسبب أن الناس يئسوا من تحقق الطلب أو أن صوتهم ممكن أن يكون مسموعاً أو له ثقل، وتلك حكاية أخرى، إنما قصتنا اليوم في التفكير والمنطق الذي يجعلك تحمد الله أن القليل من وقع الوثيقة، أهذا خبر تفرح به؟
أتحسبون المواقف بناء على الأشخاص؟ فلا ترون خيراً في أي سلوك جاء من جهة صنفتموها أنها شر مطلق، ألا فاعلموا أن ذلك هو المنطق الذي أخر وحدتنا وأبعد عنا احتمالية العمل ضمن فريق واحد على كل صعيد لا على صعيد القيادات فحسب، بل حتى على صعيد فريق للكشافة.
ذلك المنطق هو الذي نحته وأبعدته عن آلية اتخاذ القرار الكيانات التي اتحدت وشكلت قوة وكتلة، لأنها آمنت أننا لن نكون متطابقين أبداً كبشر، وأن القواسم المشتركة بيننا كثيرة، وأنه بإمكاننا أن نتحرك للأمام إذا وضعنا تلك القواسم المشتركة قاعدة ومنصة للانطلاق، ومن ثم بإمكاننا أن نعالج اختلافاتنا ونديرها بشكل لا يعيق التقدم.
هذا المنطق معدوم مع الأسف عندنا، لذلك لن تقوم لنا قائمة والاتحاد صعب المنال ليس لأن قياداتنا لا تملك ملكة الإيثار، بل لأننا نحن من نفتقدها!!