تناولنا في المقالين السابقين كيف استطاع الإعلام الدولي عبر عقود طويلة أن يصاحب مصالح الدول الكبرى، خلال حقبة الاستعمار العسكري، وحقبة العولمة التجارية، وسعيه في السنوات الماضية لتسويق فكرة التغيير بالعالم الثالث، كآلية لتحقيق أهدافه السياسية، وأخيراً تضخيم السلبيات في العالم الثالث لتكريس الإحباط واليأس لدى شباب هذا العالم.. والسؤال الذي يطرحه هذا المقال، لماذا يعمد الإعلام الدولي إلى تبني هذه السياسة الإعلامية في تناول أحداث العالم الثالث؟ والإجابة لتحقيق المصالح المالية والسياسية وتسويق أيديولوجيته وأخيراً تكريس الهيمنة والتبعية.
إن الحديث عن أخلاقيات وقيم إنسانية تحكم أداء الإعلام الدولي هو أمر بعيد عن الواقع، وتحكمه السذاجة الفكرية، فالمصالح هي الأساس الذي يحكم معالجات الإعلام الدولي، ويتم تغليفها بغطاء أخلاقي يتم استدعاؤه في الرد على أي نقد تتعرض له هذه المعالجات، وحتى لا تكون الأساليب مباشرة في تحقيق أهداف هذا الإعلام.
فالدول الكبري لديها إنتاج ضخم من السلع والخدمات والصناعات تحتاج لأسواق خارجية لتصريفها، وهنا يكون من أدوار الإعلام تسهيل فتح هذه الأسواق من خلال رسائله الإعلامية والإعلانية التي تصنع عقلية الشعوب الأخرى وقيمها وعاداتها الشرائية، بما يحقق هذا الهدف ويسهم في حل أزمات هذه الدول وزيادة تشغيل مصانعها وعمالتها وبالتالي يخفف العبء المالي عن الدول تجاه موطنيها.
وتحقيق هذه المصالح الاقتصادية يؤدي لزيادة الدخل القومي والفردي وارتفاع معدلات النمو والرفاهية وتظل في تصنيفها كعالم أول بما يمكنها من الاستمرار في هيمنتها على الأسواق العالمية بالشكل الذي يجعلها متفوقة على الإنتاج المحلي المنافس لهذه السلع والخدمات، وهو ما يقود لضمور صناعات دول العالم الثالث وزيادة معدلات البطالة وزيادة اعتمادها على الدول الأخرى بما يكرس تبعيتها للعالم المتقدم في تلبية احتياجاتها، وهو الأمر الذي يفضي في النهاية إلى التأثير على القرار السياسي لدول العالم الثالث.
وإلى جانب المصالح المالية، توجد المصالح السياسية للإعلام الدولي، والذي يستهدف كسب الدول الأخرى بجانب الدول التي تملكه، فمن خلال المعالجات التراكمية يسعى لبناء القناعة السياسية لدى دول العالم الثالث بالدولة الأخرى ونظامها السياسي وبالتالي ففي حالات الصراع السياسي أو العسكري مع الدول الأخرى تضمن هذه الدول المتقدمة مناصرين لموقفها في مواجهة الدول الأخرى المتصارعة معها سواء تطور الموقف لإحدى المؤسسات الدولية للتصويت أو ظل عند حد الانحياز لأحد أطراف الصراع.
كما أن المصالح السياسة سيعقبها تحقيق مصالح اقتصادية لارتباط القرار الاقتصادي بالقرار السياسي فالدول المختلفة تميل لتدبير احتياجاتها من الدول التي ترتبط معها بعلاقات سياسية قوية.
ويسعى الإعلام الدولي إلى جانب ذلك إلى تسويق أيديولوجيته، وكلما كان لهذا الإعلام القدرة على الوصول للدول الأخرى، كلما ساهم في نشر أيديولوجيته السياسية بسرعة خاصة، إذ كان ينشر بلغات تعرفها الدول المستهدفة، كأن يبث باللغة المحلية لهذه الشعوب أو بلغة دولية قابلة للفهم، فاللغة الإنجليزية مثلاً قد ساهمت في نشر الأيديولوجية الغربية بشكل أسرع حيث يعرفها 80% من سكان العالم، بينما هي اللغة الرسمية لـ20% من سكان العالم فقط، وكذلك الأمر للغة الفرنسية، ولذا انتشر إعلام هاتين اللغتين كونياً عكس لغات دول كبرى مثل روسيا، التي لم يكن يعلمها سوى الدول المكونة للاتحاد السوفيتي السابق، وكذلك اللغات الصينية واليابانية والألمانية التي لم تفرز إعلاماً كونياً بسبب عائق اللغة.
كما أن نشر الأيديولوجية يسهم في عالمية نموذجها وأنماطها الحياتية والحضارية ونظامها السياسي والاقتصادي، وهو الأمر الذي يسهم في اعتناق كل هذه الجوانب والدفاع عنها من قبل الذين تبنوها من أبناء الدول الأخرى، ويقود لما قاله الصحافي الأمريكي توماس فريدمان «إن دولة بها ماكدونالدز لا يمكن أن تحارب دولة أخرى بها ماكدونالدز».
ويأتي الهدف الرابع والأخير وهو السعي للهيمنة والتبعية بكل أنواعها السياسية والاقتصادية والإعلامية والاجتماعية والثقافية للنموذج الذي تتبناه الدول المالكة لهذا الإعلام الدولي، وهذه التبعية تستهدف صياغة العقل الجمعي للمواطنين في دول العالم الثالث، وفقاً للمنظومة الفكرية للدول الكبرى، وهو ما يسهم في تكوين المناصرين لهذا النموذج بل المبشرين به لدى الفئات الاجتماعية الأخرى، ويقود في النهاية لاغتراب هؤلاء داخل مجتمعاتهم، وأن يظلوا تواقين للهجرة إلى البلد صاحب هذه الأيديولوجية.
إن هذا الوضع يكرس المزيد من الإحباط لدى الشباب بسبب مقارنتهم بين النموذج الحضاري الغربي ونموذجهم المحلي، ويقود ذلك لزيادة معدلات الرفض والاعتراض والنقد غير البناء لمجتمعاتهم دون النظر لخصوصية هذه المجتمعات وظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وبالتالي يكون هذا الإعلام الدولي قد نجح في تصدير نمط جديد من الإحباط لدى شباب العالم الثالث، وهو ما يدفعهم للاعتراض وزيادة الخلافات والرفض لمجتمعاتهم ويزيد من ناحية أخرى من هيمنة الدول الكبرى على دول العالم الثالث، إذ إنه كلما زادت الاختلافات في الداخل بين أبناء أي مجتمع كلما اتسعت الأبواب أمام القوى الخارجية للدخول والاستغلال، وتحقيق مصالحها في هذه البلدان وفقاً للسياسة الاستعمارية القديمة القائمة على مبدأ «فرق تسد».
* أستاذ الإعلام المساعد بجامعة البحرين