الثابت في العلاقات الدبلوماسية أن أرض السفارات مساحة محمية لا تمس حتى وإن اختلفنا مع سياسات تلك الدول التي لديها سفارات في بلادنا، وبناء على ذلك ووفق اتفاقيات فيينا وغيرها، فإن استهداف السفراء أمر مرفوض بتاتاً.
بالتالي قبل الخوض في المبررات والمسوغات، فإن عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا، مسألة مرفوضة تماماً، ولا تفسر إلا على أنها عملية إرهابية.
في أيام رسولنا الكريم وخلفائه الراشدين، لم يكن مبعوثو الدولتين الفارسية والرومانية يمسون ولا تتم أذيتهم ولا يتم قتلهم، رغم أن العلاقة التي تربط الدولة الإسلامية بهما هي علاقة حرب، هذه هي أخلاقيات الإسلام التي تعلمناها من رسولنا الكريم، حتى في حربه لم يكن «ينكل» بالناس، ولم يحرق ويهدم كنائسهم ولا معابدهم، بالتالي هذه هي الصورة الحقيقية للإسلام.
نعم، هناك استياء إسلامي عربي يضاف إليه استياء عالمي كبير مما يحصل في سوريا، هناك استياء وإدانة للدور العسكري الروسي الذي يعزز حراك بشار الأسد وكتائب الموت المدعومة هناك من قبل إيران، لكن كل ذلك لا يصل لقتل سفير، بحيث تكون العاقبة «تحوير» القضية بأكملها من «مجازر» و«إبادة» بحق آلاف الأبرياء في سوريا، لتكون قضية جديدة يستهدف بها الإسلام بتهمة «الإرهاب».
هناك آلاف من البشر فرحوا لما قام به التركي قاتل السفير الروسي، بعضهم اعتبرها عدالة إلهية، وكثير منهم تداولوا على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو للسفير يحتفل فيه مع المجرم «أبوعزرائيل» من كتائب «الحشد» الموالية لإيران، وهو مقطع فيه احتفالية ضد أهل السنة في العراق، واعتبروا ما حصل نتيجة لاستفزاز مسبق.
عموماً، ما يؤسف في الأمر أن طلقات معدودة قتلت سفيراً، جعلت العالم بأسره يتحدث عنه ويدين الجريمة – وهي مدانة لا محالة – وبيانات تصدر هنا وهناك، في صورة وكأنها طغت على صور آلاف من جثث الأطفال والنساء والشيوخ الأبرياء في سوريا، وكأن ما حصل «زخمه» أصبح أعلى صوتاً وأكثر اهتماماً مما يحصل في حلب من مجازر.
على من تقع اللائمة هنا، هل اللوم سيقع فقط على من قتل السفير الروسي، أم اللوم يعود إلى أصوله وجذوره الأولى، وأعني يصل إلى المنظمة الدولية نفسها «الأمم المتحدة» والتي حتى الأمس تتحدث عن القيام بأدوار إنسانية فقط بشأن إجلاء اللاجئين وتوفير المؤونة لهم، في حين كان العالم ينتظر بالفعل تدخلاً أممياً قوياً وحتى تشكيلاً عسكرياً منذ أن بدأت أزمة سوريا، وبانت نزعة الإبادة وأوامر «تصفية» البشر من قبل الأسد.
ما يثير الغضب أن الأمم المتحدة وعبر أذرعها المختلفة، مارست أدواراً مؤسفة بحق دول لم تصل حجم الكوارث الإنسانية المتعمدة فيها بنفس حجم ما وصلت إليه سوريا، حاولت التدخل وفرض إملاءات والتعبير عن «قلق» متواصل بشأن إجراءات دستورية وقانونية وسيادية بحق جماعات إرهابية متطرفة، مثلما حصل في البحرين وكثير من الدول، ونسيت أن واجبها كأمم متحدة أن تتحرك بشكل فعلي وجاد تجاه عمليات الإبادة الممنهجة والديكتاتورية الصريحة الصرفة مثلما حصل ومازال في سوريا.
بالتالي، حينما تقف الأمم المتحدة عاجزة، وحينما يقتصر دور القوى العالمية على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية على الكلام فقط، وتترك الأمور لتزيد حدتها، بل يتم ابتكار واختراع «داعش»، ويعمد الأمريكان للانسحاب من العراق، وفوق ذلك يستمرون في معاداة روسيا والصين بشكل مفضوح، حين تصل الأمور بعدها ليتحرك الناس العاديين من أنفسهم لينفذوا سياسة الانتقام أو يقرروا أساليب إقرار العدالة، أيحق لنا كأنظمة أن نتهمهم هم فقط بأنهم «إرهابيون»؟!
هناك فرق بين الخطاب الدبلوماسي الرسمي للدول، وبين الخطاب الشعبي من قبل الشعوب، الدول سترفض عمليات القتل والإرهاب وانتهاك الأعراف الدبلوماسية مهما كانت الأسباب، بينما الشعوب فردات فعلها ستختلف بين من يؤيد ما حصل ويعتبره عدالة، وبين من يدين ويشجب لأنه يؤمن بأن هذه الأساليب ليست الطرق المثلى لحل الأمور.
شخصياً، لدي تناقض في المشاعر هنا، أرفض العنف والإرهاب والاعتداء على الدبلوماسيين، لكن في نفس الوقت مستاء من الدور الروسي الذي عزز إرهاب الأسد وجرائمه، بيد أن الأهم وسط كل ذلك، يتمثل بالألم الذي يولده استنكار العالم بأسره لاغتيال شخص لآخر، في حين أن هناك أمة تباد وتسحق ويتم التنكيل بها، والعالم مازالت أطراف فيه «تنظر» و«تستنكر» وأمم متحدة بات إنشغالها الوحيد إما بتصريحات ذات «اتجاه معاكس»، أو بـ«القلق» الذي صار محل تندر، بل مبعث اتهام بالتخاذل وأن كل هذا الإرهاب الحاصل في العالم اليوم، هو نتيجة لهذه السلبية.