أكدت العديد من الدراسات التي أجريت على الوقف وجود علاقة وثيقة بينه وبين عملية التنمية، حيث لعب الوقف الإسلامي دوراً كبيراً في بناء الحضارة الإسلامية، وإرساء أسسها على التكامل والتضامن والتعاون، والتآخي في العناية بالأوقاف، وهذا ما جعل الباحثون يطرحون اتجاهات عصرية لتوظيف الوقف في عملية التنمية المستدامة، وتقديم صورة عملية تؤكد أن المنهج الاقتصادي والتنموي في الإسلام هو البديل لسد ثغرات النظامين الرأسمالي والاشتراكي.
نشأ النظام الرأسمالي منذ ولادته في القرن السابع عشر على إطلاق العنان للنشاطات الربحية، ومبادرة القطاع الخاص فجعلها العمود الفقري للهيكل الاقتصادي على حساب البدائل الأخرى بينما اتجه النظام الاشتراكي إلى إضعاف المبادرات الفردية وإلغاء دور الربح باعتباره حافزًا على العمل والإنتاج، وجعل الهيمنة مطلقة للدولة على مقدرات الاقتصاد الوطني، أما القطاع غير الحكومي الذي لا يستهدف الربح فهو غير موجود في النظام الاشتراكي ولم يصبح له أهمية في النظام الرأسمالي إلا في العقود الأخيرة وقد استوعب الإسلام قطاعات الاقتصاد الثلاثة الخاص والحكومي والقطاع غير الحكومي الذي لا يستهدف الربح بطريقة متوازنة تحقق أكبر قدر من المصالح والاستقرار الاجتماعي، فقدم الحماية للقطاع الربحي المكون من الأفراد والمؤسسات التي تسعى إلى تحقيق الربح من خلال إنتاج السلع والخدمات ونصب لعملها القواعد التي تحقق الكفاءة وجعل للقطاع الثاني، وهو الحكومة، دوره المهم في رعاية الاقتصاد وإصدار التوجيهات والتعليمات التي تحقق المقاصد الشرعية دون أن يطغى هذا الدور فيؤدي إلى التضييق على القطاع الخاص.
وبالتالي أقام النظام الإسلامي بين القطاعين قطاعًا ثالثًا هو الوقف فهو وسط بوصفه مؤسسة خاصة «غير حكومية» يقدم سلعاً، وخدمات نافعة يحتاج إليها الناس ولكنها لا تفعل ذلك لغرض الاسترباح «كالقطاع الخاص» فتنحرف عن المصلحة العامة إلى الخاصة وهو بترجيحه المصلحة العامة؛ ليس جزءاً من جهاز بيروقراطي مترهل كجهاز الحكومة فيفشل في الوصول إلى أهدافه بكفاءة منافسة للقطاع الخاص، لأن المنهج الاقتصادي في الإسلام يوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع بحيث لا يتغول كل منهما على الآخر من خلال الجمع بين الواقعية والمثالية في ذلك التدبير جمعاً لبقاً مرناً مسايراً للحياة مهيئاً للإنسانية أسمى ما تستطيع التطلع إليه في الآفاق.
فالإسلام حينما يحمي الملكية الفردية للقطاع الخاص واقعي لا يفاجئ الناس بتجريدهم من أموالهم تجريداً يفتر همتهم، ويثني عزائمهم، ويقعدهم فلا يبتكرون ولا يجددون ثم هو حين يهز أسس هذه الملكية الخاصة يكون مثالياً يكفكف من غلواء الأغنياء، ويزلزل صلتهم بأموالهم ويجعلها للناس جميعاً وأصحابها عليها أمناء مستخلفون وهو مال الله لا ماله.
وعلى هذا تقوم فكرة الوقف على المسؤولية الاجتماعية للأغنياء تجاه الفقراء المحتاجين لكي يسهموا في تأسيس هذه المؤسسة الخيرية التي تكون مسؤولة عن الأنشطة الخيرية المبنية على البر والإحسان، والرحمة والتعاون، ولذلك فإنّ النظام الإسلامي يجعل من الوقف أداة لإخراج جزء من الثروة الإنتاجية في المجتمع من دائرة المنفعة الشخصية، ومن دائرة القرار الحكومي معاً، وتخصيص ذلك الجزء لأنشطة الخدمات الاجتماعية العامة، براً بالأمة وإحساناً لأجيالها القادمة، وهذا ما يتمشى مع فلسفة التنمية المستدامة التي ترتكز على الوفاء بالاحتياجات الراهنة بشكل عادل دون أن يكون ذلك على حساب الأجيال القادمة. فساهمت مؤسسات الوقف في توفير الحاجات الأساسية للفقراء من ملبس وغذاء، ومأوى، وتوفير الخدمات العامة مثل التعليم والصحة مما انعكس مباشرة على تنمية الموارد البشرية وطور من قدراتها بحيث تزيد إنتاجيتها مما يحقق زيادة كمية ونوعية في عوامل الإنتاج، ومن ناحية أخرى يؤدي إلى التخفيف عن كاهل الموازنة العامة للدولة، فضلاً عن أن الوقف الخيري يضمن كفاءة توزيع الموارد المتاحة بحيث لا تتركز الثروة في أيدي فئة بعينها مما يعنى تضييق الفروق بين الطبقات، وبالتالي يساهم الوقف بهذه الطريقة في زيادة الموارد المتاحة للفقراء بما يرفع مستوى معيشتهم، ويقلل الفجوة بينهم وبين الأغنياء.
علاوة على أنّ الوقف يساهم في زيادة عملية الادخار لأنّه يحبس جزءًا من الموارد عن الاستهلاك، غير أنه لا يترك الثروة المحبوسة عاطلة، وإنما يوظفها ويستثمرها وينفق صافي ريعها في الغرض المخصص له، كما يساهم الوقف في تمويل المشروعات الصغيرة لإتاحة المزيد من فرص العمل، واستغلال الثروات المحلية، وزيادة الإنتاج، وبالتالي زيادة المدخول، كما تعمل هذه المشروعات على إتاحة مزيد من السلع والخدمات مما يؤدي إلى مزيد من الرفاهية وتحسين مستوى المعيشة لغالبية السكان.
لكن الواقع الفعلي يكشف عن ضرورة وجود صيِغ تمويلية ما زالت معطلة لمؤسسة الوقف في الوقت الراهن، وإمكانية تنويع صيغ استثمار أموال الوقف ما بين التمويل الذاتي، والإجارة، والمرابحة، والاستصناع، والمزارعة، وسندات الوقف بعد إعادة النظر في الأحكام الفقهية، وتطوير فقه المعاملات المالية في الإسلام لمواكبة التطورات الاقتصادية المعاصرة، بجانب التنسيق بين مؤسسة الوقف الرسمية والجهات الأخرى التي تقوم على أعمال البر في المجتمع كالجمعيات الخيرية، وهيئات الإغاثة، لترشيد العمل التطوعي على اختلاف مستوياته والجهات المستهدفة من ورائه، والاستفادة من الكوادر المتخصصة في الاقتصاد الإسلامي في عملية تسويق المبادرات التطوعية الخيرية وترشيدها، وتوجيهها نحو المجالات الوقفية التي يمكن استحداثها، ولتوضيح مجالات الوقف الإسلامي في تحقيق برامج التنمية المستدامة نشير إلى أهم مجالات توظيف الوقف في المجال التعليم والتعليم، والرعاية الصحية والاجتماعية والعملية الإنتاجية.
*باحث في العلوم الإدارية والمالية