كتب - عبدالرحمن صالح الدوسري:
كان الإعلان عن تدفق البترول وطلب شركة «بابكو» عمالاً وموظفين لسد المراكز فيها يشبه مغارة «علي بابا» التي فتحت كنوزها لتنتشل أهل الحورة من الكسل والنوم و»طحنة الحريم» اللاتي تطلبن من رجالاتهم البحث عن العمل البديل، خصوصاً بعد أن «عافهم» البحر وتحول اللؤلؤ الصناعي الذي غزا الأسواق عن طريق الشركات اليابانية ما جعل أسواق الغوص وأبوام النواخذة تنام على ضفاف الساحل بحثاً عن منقذ يعيد لشريانها تدفق الدم والحياة إليها من جديد.
عيد بن جبر واحد من دفاتر الحورة الباقية -أطال الله في عمره- مازال يتذكر كل ما مر على دربه في الحياة ويتذكر التحولات التي أحدثها التحاقه بالشركة، هو رابع إخوانه.. صالح وسند وعبدالله.. وكانوا يتجاورون في سكنهم بالحورة، دخل الغوص سيب لأخيه صالح، وفي الشركة لم يكن يجيد القراءة ولا الكتابة لكنه استطاع أن يرأس 6 من معاونيه. هو الآن يعانق التسعين عاماً.. لكنه مازال يحتفظ بالكثير من ذاكرة الشباب.
يقول «بويبر»: كان عمري لا يزيد عن الـ16 سنة دخلت الغوص مع محمد بن سيف من الحورة .. واستمرت معي تلك الرحلة وتلك الصحبة مع الغوص والنوخذة محمد بن سيف والغاصة، منهم أخي صالح الذي كنت أنا له «سيب» وهو «غيص».. كانت أيام لا يستطيع أحد نسيانها.. عندما كانت الديرة تخلو من الرجال.. وأذكر عندما تتجمع النسوة وتطحن الحب، أو تكور «النقدة والزري في العصرية» والغاصة في البحر.. فما أن تقع أعينهن على رجل «يتمخطر» في الديرة حتى ينادين عليه: تعال شاركنا القهوة.. فنحن لن نتغطى عنك فلو كنت رجلاً بحق وحقيقه لكان مكانك الآن على إحدى سفن الغوص مع الرجال. تصور أن النساء كن قاسيات ويعاملن الرجال من هذه العينة بأسلوب يجرح.
«بابكو» تفتح الرزق لأهل البحرين
بعد أن قضيت سبع سنوات صعبة من عمري وأنا مازلت في سن المراهقة وعمري لم يتجاوز السادسة عشره في الغوص تعلمت الذي لا يتعلمه أهل الدراسة.
جاءت شركة «بابكو» لتفتح الرزق لأهل البحرين «تماماً كما هي مغارة علي بابا».. وتراكض الرجال نحوها حفاة يبحثون عن الراحة والثراء معاً.. وحتى العلم كان بابه من الشركة.. فقد كنا مجموعة بشر جهلة.. لكن «كدادة». دخلت الشركة.. وكانت يوميتي اثنتا عشرة آنة، وكل شيء نحن من نتحمله من ملابس إلى مواصلات، لم تكن في تلك الفترة السيارات متوفرة، ولا توجد الطرق المجهزة لها في المحرق والمنامة والحد، فكنا نقضي طوال الأسبوع في الشركة ولا نعود إلا في آخر الأسبوع، كانت هناك غرف للعمال في «كولي كمب» شرق الرفاع ومنطقة العمروفي رقم «واحد» وبالقرب من «الريفاينري» كانت الغرف موزعة في كل تلك المناطق كسكن للعمال، وهي أشبه بمعسكرات الجيش، وهي عبارة عن «برسيتة» مبنية من سعف النخيل على هيئة عرشان» منفصلة نمضي فيها طوال الأسبوع، وكل جمعة نزور عوائلنا، وبعد أن ازداد عدد العمال استوردت الشركة سيارات تسمى «سالم الخطر» وهي عبارة عن سيارات كبيرة الحجم وكل آخر خميس تجول هذه السيارات مناطق البحرين لتفرغ من فيها من عمال كلاً بالقرب من بيته لتعاود نهار السبت أخذه من نفس المكان ليعود بذلك إلى عمله في الشركة.
«يا عيد أنت تنديل»
على 6 أنفار
كان عمري عندما دخلت الشركة 18 عاماً، لا أعرف القراءة ولا الكتابة، بعدها تعرفت على اثنين كأصدقاء من الرفاع يرحمهما الله، «واحد ينقال له.. ناصر بن عريج والثاني يوسف الحمر يعني والله إنني مدين لهما بكل ما تعلمته في الحياة.. تمل ثوبك.. ولا تملهم» علموني الشغل كله هما مسؤولا «البيلرات» وهما المسؤولان عن «سيستم باور هوس» وهو الذي يدير «شفت» الكهرباء في الشركة، بعد فترة تم إلغاء هذا القسم ونقل صديقاي ناصر ويوسف إلى عوالي، ونقلت أنا إلى «باور هوس» وعملت «كولي» لا أعرف صدري من «تفري».. حتى رقمي الذي يعلق على صدري لا أجيد قراءته.
ويواصل عيد.. أذكر أن عندنا واحداً من المحرق يسمى.. أمر الله، كان أمر الله اسمه لكن فعلته لا ترضي الله ولا عبده.. كان «بايق خياش».. و»الخيشة» يبيعها في تلك الأيام الواحدة بروبية. الدنيا صعبة والناس تحاول بأي الطرق أن تبحث عن الرزق حتى وإن كان بالحرام، كان يشحن بالعشرين «خيشة» بالاتفاق مع «دريول» في الشركة «متخادن» معه، ويحملهم في السيارة ويأخذهم ويبيعهم ويقتسم معه المبلغ. «طاحو به» يعني تم كشف أمره وفنشوه من شغله.. فطلب مني «الصاحب» الإنجليزي أن أمسك شغله، قال لي «يا عيد أنت الآن تنديل» على ستة أنفار وأنت مسؤول عنهم.. وعملهم عبارة عن «سويبر» ينظفون المكاتب، وأنا «تنديل» عليهم قلت له: صاحب.. قال «هاه» قلت له : أنا لا أعرف القراءة.. ولا أكتب. قال: أنا من سيعلمك الكتابة والقراءة.
وكان يسمى «الن» والرئيس على «الن» كان الصاحب «جوك».. وطلب مني أن أحضر معي دفتراً صغيراً و»الشيت» كان كله مكتوباً بالإنجليزي وليس بالعربي، وكانت عبارة عن كلمات لتشغيل الماكينة، وقفلها، وتوزيع الموظفين في هذه الورقة لموظفي أول النهار أو الليل وآخر الليل يعني جدولاً وكشفاً بالأسماء والكلمات المستخدمة في العمل.
ويواصل عيد..» قال لي الصاحب أنا اخترتك لأنني أشعر أنك قوي وذكي وبإمكانك أن تتعلم الشغل بسرعة.. ولم تمضِ عليّ ثمانية أيام إلا وكنت قد حفظت «الشيتة» بالكامل لكنه تعجب من شيء في الكتابة، قال إنني لم أعلمك «الشبك» علمتك أن تكتب الكلمات كل حرف لوحده ، من علمك أن تشبك الجملة، قلت له: أنا من نفسي تعلمت ذلك، لكنه لم يصدق فطلب مني أن أجرب ذلك أمامه، ولم يقتنع إلا عندما كتبت أمامه بعض الجمل شبكاً، فاشتد إعجابه بي، وقال: «وايد زين عيد».. ورفع مرتبي من «اثنتي عشرة آنة» إلى «روبية ونصف» لليومية.. ومن روبية ونصف إلى روبيتين وأربع آنات.. وعندها وقف راتبي عند هذه اليومية، وكانت الزيادة تأتي كل 8 شهور.. وأنا مع ذلك كنت قد «فنشت» من الشركة مرتين.. وكان ما أجبرني على «الفنش» هو التعب.. الشغل في الشركة يعني إنك غير مرتاح. يأخذوننا في منطقة العمر وكل واحد يحمل «هيباً» أكبر منه وأثقل منه وتعال وكسر «الحصى» طوال النهار، يعني أنت عامل في شركة أم سجين تقضي فترة السجن، نحن كنا نفس الشيء نعاني من هذا التعب، وأنا مازلت صغير السن فأحسست «بالضيق» والتعب فقدمت استقالتي، بعد ذلك أخذوني إلى «اليورن» نحمل «الليحان» والحطب فقدمت استقالتي للمرة الثانية.
جاءني رجل طيب يدعى «عبدالله بن حسن اسكنير» .. قال لي: «أنت فنشت مرّتين، إذا ثلثتهما لا تصدق أن يرجعوك إلى الشغل فـ»دير بالك»، واستمرت أيامي في الشركة «تنديلاً» على 6 كولية.. وكانوا يحضرون لنا عمال «برنتس» نعلمهم الشغل، يعني مثل «الدورات» التي الآن تعطى للموظفين، كنت قد تعلمت في أقسام أخرى وأصبحت مسؤولاً عن 36 «جارج» واحد للآيل وآخر للهواء.. وثالث للبترول.. وهؤلاء الموظفين يتم تبديلهم من الصبح إلى الصبح، وكان كل واحد منهم قبل أن يغادر عمله يقدم لي تقريره طوال اليوم على ورقة «شيتة» بالإنجليزي.
بعدها أصبح راتبي 22 روبية ونصف، ويومها حصلت على «رخصة» عشرة أيام هي إجازتي التي أستحقها عن العمل في تلك الفترة، فحصلت من الشركة على مكافأة عبارة عن «نجمة لخمس سنوات» تعلق على صدرك، بعدها أعطوني لعشر سنوات بعدها 15 سنة.. وفي ذاك الزمان جمعتهم وصنعت منهم خاتماً «مينة» في يدي، وهم من الذهب الخالص.
وقبل أن تنتهي رخصتي.. في الـ15 الأخيرة.. جلست وإخواني وربعي على السيف.. فأخذوا يتندرون عليّ: «أنت الحين فرحان بالمعاش مال الشركة يا عيد يعني اثنين وعشرين روبية ونصف هذا راتب.
قلت: ويش فيه هالراتب..
قالوا: لو اتفنش من الشركة بتحصل هذا الراتب في يوم وأكثر منه بعد.
قلت: إشلون أحصل هالمبلغ في يوم.
قالوا: احنه كل ليلة اندش البحر حق السمك ونبيع ما يقل عن سبعين أو مائة روبية في اليوم». وكانوا «يبارون» الحضور والغزل، كبرت القصة في رأسي.. ورحت الشركة وقلت لهم: «خلاص آبي آفنش.. ما أريد الشغل.. حاولوا معاي.. يمين.. يسار بنزيدك.. وأنت تنديل عود.. «مراد» خلصت معاهم وعطوني حقوقي 17 ألف روبية.. عن مستحقاتي عن عمل 22 سنة في الشركة». وأول ما استلمت المبلغ قمت بشراء بيت في الحورة بـ11 ألف روبية و200 للإيجار. وعندما جاء موعد زواج ابني الكبير جبر قمت ببيعه لتجهيز ابني للزواج.
نبوءة النبهاني
يقول الصديق بدر عبدالملك في مؤلفه الأخير «بابكو سيمفونية البحرين الكبرى» والذي صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت 2013: وصل العلامة الشيخ خليفة بن حمد النبهاني إلى جزيرة أوال في غرة سنة 1332هجرية، حسبما جاء في كتابه «التحفة النبهانية في تاريخ الجزيرة العربية» والذي أشار في بابين إلى مفردة النفط، وهما باب «المعادن» قال فيه: يوجد في البحرين معدن الجص والنفط والقير عند جبل الدخان، ما يعني أن النبهاني يعد من أوائل الباحثين في القرن العشرين الذين أشاروا إلى وجود النفط في تلك المنطقة، لكن اكتشاف النفط لم يأتِ إلا بعد 18 عاماً من تلك النبوءة، أي في سنة 1932.
مدرسة جاسم صليبيخ
أنعشت بابكو الدراسة لدى منتسبيها لتحسين أوضاعهم التعليمية للتخلص من «الصخين والشيول» والتحول من العامل إلى المسؤول والقيادي في العمل «التنديل» الذي يشرف على مجموعة من العمال، وبذلك فقد تعاون موظفو «بابكو» الذين تعلموا اللغة الإنجليزية مع أصدقائهم الذين تعلموا في المدارس الحكومية، وعملوا كموظفين إما في الشركات الأجنبية الجديدة أو في الدوائر الحكومية، ليشكلوا بذلك رعيلاً من المتطوعين لنشر ثقافة الحرب على الجهل والأمية، وكان الكبار ممن التحق بهذا السرب للتعليم يتوافدون على مدرسة جاسم صليبيخ بالحورة، فيما واصل البعض منهم دراسته بعد مدرسة جاسم صليبيخ إلى أكاديمية مدرسة التاجر.
كانت مدرسة جاسم صليبيخ تشع في الليل بالمصابيح الصفراء الشاحبة، أما مقاعدها وكراسيها فقد كانت متراصة في مكان ضيق وهو عبارة عن حجرة كانت تصلح بأن تكون «طبيلة» لسيارة، هكذا كان جاسم حريصاً بنقل رغبته الإنسانية على نقل المعلومات التي تلقاها في بابكو، والقيام بنشرها في فضاء الفريج بين عمال كان دافعهم للعلم قوياً في سوق للعمل يبحث عمن باستطاعته أن يمتلك فك الحرف بدلاً من الأمي الأعمى، لذلك كان الدور بارزاً وفعالاً لما قدمته مدرسة جاسم صليبيخ في إنارة الكثير من الدروب لأبناء الحورة الذين سعوا للتخلص من أميتهم غير مبالين بأعمارهم وهم يتراصون على كراسي الدراسة في مدرسة جاسم صليبيخ بالحورة.
جاسم صليبيخ واحد من أبناء الحورة الذين مرّوا على مدرسة عبدالله بوشليبي، المدرسة التي بدأت العام 1948 وأغلقت العام 1949، وجاءت بعد مدرسة عبدالله العسومي والتي افتتحت العام 1947 ولم تدم أكثر من سنة واحدة، وكانت عبارة عن دكان صغير في شرق الحورة عند بيت سند، وكانت مدرسة بوشليبي تدرس اللغة الإنجليزية والضرب على الآلة الكاتبة، وفي تلك المدرسة تعلم جاسم اللغة الإنجليزية قبل أن يتخرج من المرحلة الثانوية في المدرسة الغربية في سبتمبر 1954 ليلتحق بعدها بشركة بابكو في سبتمبر من العام نفسه في قسم «الحسابات»، كانت بابكو قد فتحت في تلك الفترة وبشكل أكبر فصولاً لمحو أميتهم، وتحسين قدراتهم بهدف تطوير مهاراتهم المهنية.
مدرسة جاسم صليبخ كانت قد فتحت أبوابها في الحورة في بداية سنة 1900 وأغلقت 1962، وكانت تتقاضى خمس روبيات شهرياً، فيما كانت تقوم بتدريس أبناء الحورة غير المقتدرين على الدفع بالمجان، وكانت موادها التعليمية محصورة في الحساب واللغة الإنجليزية، مستعيناً جاسم بصديقه بلال فرج ببرنامج المدرسة الهندية التي كانت كراريسها منقسمة إلى «برايمر ون» و»برايمر تو» و»ريد ون» و»ريد تو»، وكان الطالب في المدرسة يتلقى يومياً دروسه ما بين 10-15 دقيقة، وقد تراوحت أعداد طلاب محمو الأمية ليلياً في هذه المدرسة ما بين 65-75 طالباً، قدموا من الحورة والفرجان القريبة منها كالذواودة والعوضية والقضيبية والفاضل.
وداعاً أيها البحر..
أهلاً «بابكو»
كان القاص والأديب محمد عبدالملك واحداً من أبناء الحورة الذين تميزوا في العديد من المواقع المهمة في «الفريج» فبكونه مدرباً بارزاً لفريق الغربي صاحب الجولات في الكرة البحرينية والذي صنع وفرخ العديد من الأجيال إلا أنه أحد أبرز من كتب القصة القصيرة فيها، ورغم أنه من جيل كتاب القصة القصيرة الذين لم يمارسوا الغوص وممن تربوا على قصص وحكايات الغوص والبحر المتناقلة على شفاه الجدات والأمهات كإرث ثقافي، كما إنهم لم يعايشوا فترة تدفق النفط الأولى وباكورتها ، فأكثرهم ينتمون إلى مرحلة الحرب العالمية الثانية وما بعدها وفق سجلات مواليدهم الرسمية، لكنهم بواقع الأمر تشبعوا بثقافة البحر والغوص كجزء من تركيبة مجتمعية عايشت شواطئ قراها وأحيائها برائحة البحر وحكاياته، ففي قصة محمد عبدالملك «عندما توقفت آخر سفينة» وهي من مجموعة «موت صاحب العربة» فقد وضع عبدالملك روايته بين زمنين ومشهدين في صراع إنساني داخلي يتماشى مع الواقع الخارجي، ولم ينسَ وصف ذاك الزمن بشهقة مليئة بالحسرة تمثلت في قوله «آه يا زمان الردي»، فتشعرنا القصة بنبض الغربة المنتظرة. هكذا كان عالم البحر والغوص أكثر رومانسية رغم قساوته وأكثر قبولاً وإنسانية من عالم الآلات والاغتراب الرأسمالي النفطي. فكتب عبدالملك «كانت الحياة زاخرة بكل شيء رغم الصعوبات والمخاطر، كنا عراة نجوب البحار بشراعنا وأيدينا الصخرية الممزقة، لكنها كانت حياة لها خصوصيتها وأصالتها، تجانست معنا وتجانسنا معها فعشنا معاً في وفاق.
رفضت الدراسة في «برانتس» وقبلت بـ 60 روبية
علي صالح الدوسري واحد من أبناء الحورة المتميزين، فهو قد عرف كأول مدرب ينتهج التدريب عن طريق الكتب ويطبقه في الملعب عندما كان مدرباً لفريق الوحدة قبل أن يتحول إلى العربي، وكان كاتب قصة قصيرة وصحافياً وسياسياً ولكنه كان طالباً استطاع أن يحصل على التفوق، وكان من بين الطلبة العشرين الأوائل على مستوى البحرين، وقد حظي بمنحة من شركة بابكو. ماذا يقول عن تلك المنحة؟ «عندما انتقلت لإكمال دراستي الابتدائية في مدرسة قريبة من سكني في الحورة وهي المدرسة الشرقية في رأس الرمان، في تلك الفترة كنت واحداً من الطلبة المتفوقين في السنة الابتدائية، وكنا بعد أن ننهي الابتدائية نلتحق بالدراسة في المدرسة الثانوية، لمدة ثلاث سنوات، وكانت المرحلة الإعدادية غير موجودة في تلك الفترة، وعندما تفوقت في الصف السادس الابتدائي كان الامتحان يقدم على مستوى البحرين وليس على مستوى المدرسة، حاله حال التوجيهي الآن، وكنت واحداً من الطلبة المتفوقين على مستوى البحرين، وبعد أن انتقلت إلى الثانوية، كنت من المتفوقين في اللغة العربية والتعبير، كانت شركة «بابكو» في تلك الفترة تكرم العشرة الأوائل على البحرين في المدرسة الابتدائية، وكانت تصرف لهم مكافأة عبارة عن منحهم مصروفاً شهرياً قدره «ستون روبية» ما يعادل الستة دنانير في الوقت الحالي. إضافة إلى اشتراك مجاني في جريدة النجمة الأسبوعية، وكانت أول ستين روبية استلمتها من المكافأة «طرت بها على طول» إلى «سوق المقاصيص» ، واشتريت «سيكلاً مستعملاً»، وأنقذت نفسي خلال ذهابي إلى المدرسة الثانوية من المشي الحافي على «القار» الذي كان يواجهني في دراستي الابتدائية، سواء في الغربية أو الشرقية.
الطريف أنني اشتريت هذا «السيكل» وأنا لا أجيد التعامل معه، يعني لا أستطيع ركوبه، فأحضرته معي لساحة قريبة من بيتنا وكنت أتدرب عليه «أمشي شوية وأسقط»، ثم أحاول المشي فيه مسافة قصيرة، وأعاود السقوط، وأصابتني جروح كثيرة من هذا الفصل التعليمي من ركوب «الدراجة» لكنني كنت مصمماً على التعلم لأنه طريقي إلى الإنقاذ من السير حافياً في الشوارع، ولأنه من سيختصر عليّ المسافة أيضاً ولأن من يركب السيكل.. يعتبر شخصاً أو طالباً مميزاً لأنهم قلة من يمتلكون هذا السيكل، وهو ما ميزني في تلك الفترة لأنني وأنا في هذا السن المبكر كنت من خلال الستين روبية التي أحصل عليها من «بابكو» أصرف على ملابسي واحتياجاتي، وأعطي عائلتي منها، وهذه ميزة أسعدتني كثيراً، فبدلاً من أن تأخذ مصروفك من أهلك، كنت أنت تصرف على أهلك ومازلت طالباً، هذا ما ميزني عن الكثير من الطلبة في سني وحتى إخوتي وهذه من المحاسن التي أذكرها لشركة «بابكو» التي كانت تسلمني راتب موظف في تلك الفترة وأنا مازلت طالباً.
ومع كل الإغراءات بالعمل في بابكو بعد الدراسة فيها إلا أنني أعجبت بالعرض الأول وتسلمت الستين روبية والثاني وهو الاشتراك المجاني في «النجمة الأسبوعية»، لم أرفضه فأنا مولع بالقراءة وأخبار العالم التي ينشر الكثير منها في «النجمة الأسبوعية»، أما العرض الثالث المتخصص في الدراسة ومن ثم العمل في «بابكو» فلم يغرني لأنني كنت أفضل العمل مدرساً بعد تخرجي.
في النهاية تخليت عن السير على الأقدام خلال ذهابي للمدرسة الثانوية والتي كانت في القضيبية بالقرب من القصر القديم و»كشخت» فيه وكأنني أمتلك سيارة آخر موديل، وهي من الذكريات الجميلة التي جعلتني أحتفظ بعدد النجمة الأسبوعية الذي نزل فيه خبر الطلبة العشرين المتفوقين وأنا واحد منهم ومازلت أحتفظ بهذا العدد إلى اليوم كواحدة من ذكرياتي الجميلة عن «بابكو» وهو العدد رقم 28 وصدر بتاريخ 3 محرم 1377 الموافق 31 يوليو 1957.
ثقافة السفرطاس و«مرحباه صاحب»
«بابكو» لها العديد من المؤثرات في الشأن البحريني وخصوصاً بين عمالها، مثال على ذلك «مرحباه صاحب»، والتي كان يطلقها أهل البحرين على الشخص الإنكليزي المسؤول في الشركة، ومع مرور الوقت صارت تطلق على جنسيات أوروبية عديدة، ثم على كل شخصية عالية المكانة والموقع والوظيفة، وقد كتب د.محمد الخزاعي في «كراس عن بلجريف» المستشار بلجريف فترة الأربعينات «يقوم أطفال الفريج في فترة الأربعينات والخمسينات بتحية الفارس بالتحية المعتادة، هذه الكلمة العجمية التي تم تداولها بسرعة البرق في المجتمع البحريني مثلها مثل أي كلمه شعبية دارجة في المجتمع البحريني لكنها ما لبثت أن توارت من قاموس المجتمع البحريني عندما بدأ الوعي السياسي يأخذ مكانه الريادي بالمجتمع البحريني، حتى اصبح البحرينيون يتندرون بها من خلال شيلة حمدوه «حمدو كتب جتي للصاحب، غما تزيدني والا تفنشني واشقاله الصاحب قاله ياحمدوه يانظر عيني لزيادة مرفوضة مش بوزك بفوطة والسكة لوتبي جدامك مفتوحة».
يضيف بدر عبدالملك في كتابه «بابكو.. سيمفونية البحرين الكبرى» لم تكن أسواق البحرين لتعرف وقبل اكتشاف النفط محالاً تجارية كثيرة لبيع المواعين، وإذا ما وجد دكان فإن الطلب على المواعين الموجودة فيه كان محدوداً ولكن مع تدفق العمال يومياً إلى مناطق تدشين بابكو لمرافقها واستعدادها لبشائر النفط المتفجر، كان الكانتين «المقصف» المتواجد في فناء جبل الدخان رغم تواضعه لم يكن يرضي طموحات زواره من العمال بل إن البعض وجد فيه السعر الغالي رغم أن ما يقدم به من طعام لا يرتقي لمطبخ أم العيال وتفننها في التنويع في الوجبات رغم محدوديتها».
السفرطاس كان عبارة عن عدة طبقات ـمن الطاسات، بعضها كان يتكون من أربع والبعض من ثلاث وهناك الحجم الأصغر طاستان، حتى إن بعضهم كان يقتصد بشراء سفرطاس «بطابق واحد» يعني مكوناً من طاسة، بحيث يستطيع العامل وضع طعام الفطور والغداء ويحتفظ بدرجة حرارة معقوله داخل السفرطاس لأنه مصنوع من المعدن، فتجده يحافظ على الأكل بحرارته دون الحاجة لتسخينه، وكان العمال في «بابكو» مميزين عندما تراهم عائدين من عملهم في «الفينري» وبعد أن ينثرهم «سالم الخطر» في المواقع التي اعتاد أن ينقلهم منها إلى مقار عملهم في الشركة تجد الواحد منهم يحمل معه السفرطاس و»دبة» البيلر التي يأتون بها من الشركة فهناك المطعم الحلو لصنع الشاي الأحمر، ودائماً ما يتفاخر العمال عندما يقدمون الشاي لضيوفهم «اشرب هذه شاي مب اي شاي هذه من ماي الشركة الحلو».
«الميره» من العيش
يواصل بدر البحث في ذاكرة الحورة وخيرات بابكو على فقرائها من العمال ومدى ما كان الجميع يسعد وينتشي براتب الشركة و»يفتل» ويتفنن في مشترياته من دكاكين السوق ذات الأبواب الخشبية الرطبة، يقول «كانت «الميره» تدخل بيوت أهالي الحورة العاملين في «بابكو» في الثلاثينات الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي، لتغمر بذلك السعادة الأهالي والعوائل ذات الصلة بهذا الراتب، كنت أتذكر بدر يقول: خيشة العيش «الرز» الكبيرة ذات الأربعة أمنان، وكيف كان «الحمالي» البحريني يرفعها على ظهر حماره، ليمضي بها نحو بيوت حفظها عن ظهر قلب من كثرة تردده عليها، حتى إنني أتذكر أحد الحمالين كان أعمى لكنه يحمل الطلبات إلى البيت دون أن يتوه في أي من «دواعيس» الحورة، كان الحمالون يسعدون بعد إيصال الطلبات إلى البيوت ويقوم صاحب البيت أو حرمته بتضييف الحمال بكوب «شربت» بارد في الصيف أو فنجان قهوة و»شوية» تمر أو شاي «جنزبيل» في شتاء لا يرحم، كانت العلاقات جميلة وبسيطة والناس كانوا من البساطة ما يشعرك بأنهم أهل وأصدقاء.
عندما يتم استلام راتب «بابكو» تدب الحياة في الشوارع ويخرج الناس من جحورهم، كل يبحث عن «عميل» يسدد له دين الشهر من «الماجلة»، وآخرون يبحثون عن سهرة في إحدى السينمات، والبعض يتواعد مع «الربع» على سهرة لا تتكرر كثيراً إلا أول كل شهر، بذلك تتحول «الدواعيس» إلى خلية نحل مليئه بالحركة، كانت ميرة أيام زمان توضع في «خياش» كبيرة الحجم تصل الواحدة لطول صبي في سن العاشرة من عمره، وكانت لتلك «الخيش» العديد من الاستعمالات فهي لا ترمى خارج البيت لأن الصغار -ونحن منهم- كانوا يستخدمونها كمظلات تحميهم من المطر، فيما كانت الأمهات تستخدمها للمبادلة مع زري عتيج ليعوضها «بملة أو صحن بونمر أو صفرطاس»، ولأن الميرة في الماضي لم تكن لتغطي احتياجات البيت الواحد كانت تسعف بيوت الجيران، عندما يكونون بحاجة، وكم كانت الجارات ينادين بعضهن أو يطلبن من أولادهن عندما تصرخ الجارة «عووش الصمخة» منادية ابنها «روح زتات خف عمرك، هات لي جيلة عيش من بيت يارتنه مريم خض اللبن» ما يدلك بأن الناس لبعضها ولا يمكن أن يرفض طلب لجارة حتى لو كانت جارتها تعاني من أزمة، فاليد الطيبة ممدودة والقلب الطيب يحمل هموم جبل.
أدمنت سندويتشة الجبن
يقول بدر لا أظنني أنسى ذلك اليوم الذي ناولني فيه زيد بن عبدالله الزايد العامل في «بابكو» وهو في طريقه إلى بيتهم سندويتشة الجبن تلك، ونحن في «داعوس» بيت حسين بن خلف الحسيني المواجه للبحر، كانت فرحتي كبيره وأنا أزيح ورق «النايلون» والتهمت ذلك السندويتش المثلث الشكل، وقد كان ناعماً لدرجة لم أعهدها من قبل، بعدها بسنوات وكنت قد أدمنت هذا النوع من الأكل «السندويتشة المحشوة بالجبنة الصفراء، وكانت «بابكو» تبيعها من كافتيريا الشركة بأسعار رمزيه لعمالها، غير أن العمال كانوا يشترونها وخصوصاً مع نزول «المعاش» بكميات غير عادية مثل «الصوغة» لعائلاتهم وأطفالهم الذين يوصون الأهل بشرائها وتكون بمثابة الهدية التي ينتظرون مقدمها مطلع كل شهر.
«زام» آخر الليل
يقول بدر في سرده لقصص «بابكو» وتأثيرها على المصطلحات في الحوار عند أهل الحورة «كنت أجهل في صباي المبكر المفردات القاموسية الصعبة التي أدخلتها «بابكو» على لسان عيال الفريج وأصبحت جزءاً من سوالفهم اليومية مع أن بعضهم لا يعرف ما الذي تعنيه بالعربية، مثل يوسف المحرقي ويوسف العسومي وعلي بوشليبي وراشد بوجندل، والكبار من جيل الأربعينات والخمسينات الذين التحقوا بالشركة، من أين لي أن أعرف حينها أن «زام» وهي مفردة فارسية رديفه لمفرد «شفت الإنجليزية» والكلمتان بمعنى «مناوبة»، كنت مثلاً أسمع عبدالوهاب العامر يسأل عن راشد القطان عند دكان حسن بابو «وين راشد ما أجوفه بين اليوم» فيجيبه حسن يوسف بوعلي «راشد في الشفت» فيستوضح أكثر «أي شفت» أول الليل أو آخر الليل « فيأتيه الجواب «آخر الليل».
عن تلك الفترة وحياة عمال «بابكو» كتب محمد عبدالملك في قصة «عندما توقفت آخر سفينة» سرت في الطابور الطويل مع مئات العمال والمضخات والآلات من حولك رابضة في ثقة، بينما صوتها الأبدي المتواصل ينتظر عودتك آخر الليل، وعدت آخر الليل والناس تهنأ في راحة خيالية سابحة، تاركاً وسادة ليغطس بها غيرك بينما عيناك تعيشان في نعاس يترعرع بين جفنيك ويحبو كالرضيع، وها أنت تعود لتركب السيارة الكبيرة «سالم الخطر» من جديد لم أجد غير النوم . النوم من كل جانب، حتى «ناصر» سائق الباص بدا وكأنه ينام مع العجلة منذ ثلاثين عاماً، كل العيون مغمضة والرقاب قد انهارت تماماً تحت سطوة سلطان النوم وهو عادة تقليدية عند عمال آخر الليل».