كتب – جعفر الديري:
تشكل الحركة التشكيلية جزءاً مهماً من الذاكرة البحرينية. ويرى كثير من المختصين أن تجربة الرواد أزهى التجارب وأكثرها نضوجاً في تاريخ الحركة التشكيلية في المملكة. ولم تقف أهمية جيل الرواد عند حدود التأسيس للفن التشكيلي فحسب، وإنما تعدت إلى الآفاق الأرحب التي عبرت عنها ريشتهم وألوانهم، وإلى تأثيرهم على من جاء بعدهم من هواة هذا الفن البديع. فكل ما حققته الحركة التشكيلية البحرينية من تميز وحضور جاء نتيجة التأسيس الذي قام به هؤلاء المخلصون. وتزيد من هذه الأهمية أن الظروف وقتها لم تكن ملائمة والنظرة إلى الفن التشكيلي كانت نظرة دونية ومع ذلك كان الإصرار حافزهم إلى العطاء بلا حدود. ويعتبر الفنان التشكيلي الراحل عبدالكريم البوسطة أحد هؤلاء المخلصين الذين تعدى الفن عندهم مجرد الهواية إلى أسلوب حياة متجددة العطاء وخصوصاً أنه زاول مهنة التدريس ولم يبخل بشيء من معارفه ورؤاه في تعليم الأجيال من الفنانين الذين تخرجوا على يديه وأيدي زملائه الرواد.
الراحل عبدالكريم البوسطة أحد رواد الحركة التشكيلية في البحرين، ولد العام 1940 وتوفي السبت 17 ديسمبر 2011، وكان أحد مؤسسي جمعية خزافي البحرين. أقام 6 معارض فردية في البحرين، وشارك في كافة معارض وزارة الثقافة من المعرض الأول 1972 حتى العام 2010، إلى جانب مشاركته في العديد من المعارض الخارجية في كافة عواصم الوطن العربي وأوروبا وآسيا، وشـارك في معرض اتحاد الفنانين العـرب في المغـرب والكـويت ودولة الإمارات وسلطنة عمان ودولة قطر والمملكة العربية السعودية، وشارك فـي الأسابيع الثقافية فـي كل من: تونس، المملكة العربية السعودية، دولة قطر، لبنان، سنغافورة، الأردن، بنغلاديش، والصين، وشارك في مـعارض فردية مع الفنان خليل الهـاشمي والفنان ناصـر اليـوسف والفنان عبدالله يوسف، وشارك في معرض بينالي القاهرة الأول والثـاني والثـالث والرابـع والخامس والسادس، شـارك في معارض خـزافي البحرين، واختيرت تجربته الفنية موضوع بحث لنيل شهادة الدكتوراه التي تقدم بها حسن سعيد بجامعة السوربون بفرنسا ونالها بامتياز مع مرتبة الشرف العام 2010، وحصل على عدة جوائز منها، جائزة تقديرية في معرض البحرين للفنون التشكيلية السادس والعشرين.
وأوضحت إحدى الدوريات المحلية أن «أعمال وتجارب البوسطة التشكيلية بدأت منذ العام 1962، وشكلت المنهجية في الأسلوب والأدوات والتقنيات ووسائل التحقيق وحصيلة الفكر الذاتي من رؤية المدارس الحديثة والفن الإسلامي وآنية الذاتية، للبوسطة مجالات عدة في مسارات فنون الطباعة والخزف والفنون التشكيلية».
وأضافت أن «الراحل البوسطة يعد من أهم فناني جيل الرواد لما يتمتع به من شمولية في الطرح وتنوع في الخامة وبحث في تقنياتها إلى جانب اشتغاله على اللوحة، وقد دمج الخزف والنحت الخزفي خصوصاً إلى تجربته وكذلك الطباعة بشتى أنواعها وطرقها واستطاع أن يخلق لنفسه عالماً خاصّاً به يميزه المشاهد من دونه لما يمتلك من مفردات شكلية ولونية ورموز خاصة به تشدو بالمشاهد في عالمه الخاص، ومن خلال هذا أسس لوحة تشكيلية معاصرة بسمات بيئية محلية تحاكي وتصطف في عالميتها مع أي لوحة تشكيلية أخرى، فكل ما تقدم جاء من خلال العمل والممارسات العديدة والمشاركات المتنوعة التي بدأت من نصف قرن كان أولها معرض كراكيز للفن الشرق أوسطي ومن بعدها جابت أعماله إلى جانب البحرين ودول الخليج معظم الدول العربية والمدن العالمية».
مراحل فنية متنوعة
تحدث الراحل البوسطة في الملتقى الثقافي الأهلي، عن أهم المراحل الفنية التي مرت بها تجربته الفنية، وبين أن المرحلة الأولى هي مرحلة الهواء الطلق حين يواجه الفنان الطبيعة وجهاً لوجه «كانت أول محاولة لي بهذا الخصوص في العام 1962 في منطقة أم الحصم حين كان لي وقتها أول لقاء مع الطبيعة في تحد بصري أمام كوخ اسمه كوخ حسن في أم الحصم، إذ بدأت مرحلة اللون والتخطيط، ولكن بسبب الطقس السيئ تغيرت ملامح اللوحة فلم تعد تعبر بألوانها عن البساطة والهدوء وإنما تحولت الألوان إلى عنفوان من ناحية اللون وتراجيدية الخط وكأنها ألوان معارك حربية فجعلت أتأمل فاكتشفت أن سبب ذلك راجع إلى الضوء فبوجود الضوء يوجد اللون ويكون الظل متمماً للضوء، إذ علمت وقتها أن الألوان أساس الضوء على اعتبار أنه يجسد معالم الأشياء، وذلك ما دفعني إلى التأمل في اللون البحريني في البيئة فوجدت فيه خصائص معينة فهو لون يأخذ الصبغة الرمالية، فأردت الوصول إلى اللون الطبيعي لكي أتعرف على درجات ترتيب اللون لأن طبيعة المناخ تلعب دوراً في اللون فطبيعة الشمس لا تجعل اللون في شكل ثابت وكذلك الأملاح التي تتمتع بها البحرين لها تأثير، كذلك الرطوبة فهذه العوامل الثلاثة تؤثر في طبيعة اللون ومعنى ذلك أنه علي أن أبحث عن الألوان التي تتناسب مع الطبيعة وإذ ذاك يحتاج مني اللون إلى ثلاثة أشياء الثابت والمحايد والضامر، وأعني بالثابت اللون الأساسي الأزرق كلون السماء والمحايد هو اللون الأبيض باعتباره لوناً يدخل مع جميع الألوان أما الضامر فيعطيني تغييراً لدرجة اللون لأنه سيكون لوناً صارخاً لا يتناسب مع البيئة وحتى لو مزجته مع اللون المحايد فسيعطيني درجة ناقصة فيجب عندها أن أكمله بلون يخفف اللون».
وعن المرحلة الثانية، أشار البوسطة إلى أنها مرحلة الإنسان، «انتقلت بعد المرحلة الأولى إلى مرحلة الإنسان وهو من المخلوقات الحية الناطقة، والذي له تاريخه وله صفاته المعينة في حزنه وألمه وفي تقلباته ومشاعره وركزت هنا على دراسة تشريح الجسم ودراسة أعضائه فوجدت أن الصعوبة تكمن في اليد والقدم إذ إنك عندما ترسم يجب عليك أن تحسب الأصابع كي لا ينقص إصبع واحد فإذا لم تحسب النسب بين الأصابع يظهر الجسم كأن به إعاقة. فهذه الأجزاء الثلاثة ضرورية للغاية إلى جانب العينين اللتين بهما سحر الجمال واللغة، والتي يمكن أن تعني ما بداخلهما كما قام دافنشي في الموناليزا بتحويل العين إلى بؤرة في مركز واحد فجعلها تنظر إليه أين ما اتجه وكان يقصد الأنا الخاصة به فهي تحتاج إلى دراسة عميقة وهي أمور أخذت مني وقتاً وسهراً طويلاً حتى حركت فرشاتي على وضعية خاصة بالإنسان من الناحية العقائدية والسياسية والاجتماعية فرسمت الإنسان العملاق، أصحاب الكهف، قصة آدم وحواء، سوق الحدادة وأم حمار وحاولت أن أضمنها كل هذه المعاني لكي تكون في اللوحة قراءة معنوية وتشكيلية تشد المشاهد فلا يشاهد جسماً جامداً وإنما جسماً متحرك به كل خصائص الفن».
الرطوبة ظاهرة حية
وحول ظاهرة الرطوبة قال البوسطة «إن ظاهرة الرطوبة ظاهرة حية ونعايشها كل يوم ولها تأثير حتى في تفكيرنا حين تتدخل فتشل التفكير وتجعل الفرد منا غير قادر على التفكير. فبدأت بدراسة الجدران القديمة وكيف أن الإنسان تكون له إسقاطات على المحيط الذي حواليه فتوصلت هذه الرؤية إلى ما بداخله من انفعال حين تتحول إلى شكل إنسان أو حيوان أو شكل قريب من عنصر موجود في الطبيعة، فنجد أن هذه الصورة تبين وتختفي وهي ظاهرة شغلت بالي كثيراً فلم يكن هناك بد من استعمال مواد تستعمل في تقنية الرسم فأدخلت مادة عضوية ومواد قلوية إلى جانب اللون وهذه المادة هي البيض والزلال».
ومتحدثاً عن عودته إلى الطبيعة والتغير الذي طرأ على نظرته إليها قال البوسطة: «عندما رجعت إلى الطبيعة لم أجد المنظر الشعبي البسيط الذي يجعلك تمشي بهدوء وراحة ومن دون إزعاج إذ إن الطبيعة انفضت فتغيرت من المنظر الأفقي إلى العمودي أي من السكن الأفقي إلى العمودي فتحول من نظام الشقق إلى عمارات وتحولت المواد من الجص والحصى والنورة والإسمنت إلى لوائح من الزجاج والرخام وتحولت الأعمدة من الإسمنت إلى أعمدة من الحديد وكل ذلك ترك أثره في نفسي وجعلني أنظر إلى ذكريات الماضي، فتحولت إلى السكين بدلاً من الفرشاة وبدأت الألوان تتحول عندي إلى لمسات سريعة من العدمية ليس بها وضوح بالنسبة إلى الوضوح الذي كان في السابق من ناحية البساطة، في الوقت نفسه تحولت عناصر الطبيعة إلى رموز مجردة فيها اختزال في اللون وغرابة في الشكل وإلى بويهميات فحتى الشجرة لم تعد شجرة حين أرسمها وإنما تحولت إلى رمز إيحائي يجعلك تطيل التفكير».
الرسم هاجس مسيطر
عبر لقاء سابق أجراه الصحافي جعفر الديري مع الراحل الكبير، قال عبدالكريم البوسطة «إن الفرد منا يعيش ضمن واقع يكون له تأثير كبير على إحساسه ورؤاه فيثير فيه نوعاً من اللغة تترجم بعدة أمور وخصوصاً مع البدايات، فيمكن أن يعبر عنها بحركات بهلوانية أو مغامرة وربما يعبر عنها على شكل أصوات، ولكن بالنسبة إلي كان الرسم الهاجس الذي سيطر على مشاعري، فكنت أشعر حينما أمسك بقطعة فحم وأرسم بها على الجدران لتتكون صورة ما، أن هذه الصورة كانت تشعرني بكياني الخاص إذ استطعت تكوين شيء من خلال هذه الخامة، طبعاً كانت هناك تأثيرات أخرى للبيئة التي عشت فيها، فوجودي في قرية رأس الرمان في زمن الغوص والبحر ونشاطه، مع رؤيتي للبحار وصلابة وسمرته ومغامراته وبعد نظره حينما يقف عند البحر، وينظر إلى السماء وإلى امتداد البحر، وما كنت أشعر به وقتها من ثوابت بين الظل والصورة، بما كان يمنحني من الشخصية الانفعالية التي لاتزال مستمرة، وهي عملية حركية ديناميكية، في التأثير على المشاهد، كل هذا يعتبر مثيراً من مثيرات المشاعر، وطبعاً مع مرور الزمن وبفعل التواصل تبدأ الخصوصية هنا بالتكون».
وأكد البوسطة أن «رواد الحركة التشكيلية لهم دور حقيقي كبير ومهم، فاستمرار الحركة التشكيلية في البحرين هو نتاج تأسيس البذرة الأولى، لأن الرواد هم من بدؤوا شيئاً اسمه الرسم، والرسم على لوحة الحامل تحديداً فهم الذين حملوا مسؤولية الحركة وتحملوها، في الوقت نفسه لم يعش هؤلاء الفنانون داخل المراسم الخاصة بهم بل اتخذوا من الطبيعة المرسم والحوار، متعلمين منها كل ما يحتاجه الفنان من ألوان وظلال إلى منظور إلى نسبة إلى تكوين إلى تصميم، فمن هؤلاء الفنانين انطلقت شرارة الحركة التشكيلية في الوقت الذي كانوا فيه يعانون من بعد المناطق التي كانوا يقصدونها والنظرة الدونية والتوجس الذي كانوا يقابلون به، فقد كان بعض الناس ينظرون إليهم على أنهم يقصدون إزالة بيوتهم، بينما البعض الآخر كان ينظر إليهم بترحيب حين كانوا يفهمون مقاصدهم في تسجيل هذا التراث ليبقى هذا الأثر في اللوحة التشكيلية كما هو في الصورة الفوتوغرافية، وهؤلاء الفنانون تعلموا من ذواتهم فحولوا اللوحة البيضاء إلى لوحات لونية، فالرواد أسسوا لكل هذا وذهبوا إلى جميع المناطق من قرية إلى مدينة إلى مقهى إلى كل مكان فيه حيوية ونشاط. وهناك بعض الفنانين الذين ذهبوا إلى الخارج وجاءوا بتعليمات جديدة ومعاصرة ولهم دور كبير في الحركة التشكيلية إلى جانب الرواد، ولكن أساس كل ذلك هم الرواد».
وحول رأيه بالحركة التشكيلية الحاضرة اليوم في البحرين، أشار البوسطة إلى «وجود مجموعة من الفنانين أرادوا الحفاظ على نوع معين تكون له طبيعته الخاصة التي تتخذ المشهد من الطبيعة، ولكنهم لم يقوموا فقط بنقل المنظر الطبيعي بل إن بعضهم أضفى عليه اختزالاً ولوناً معاصراً والبعض الآخر بدأ بالبحث عن ذاته ونشاطه الفكري وحاول أن يبرزه بنوع من المعاصرة أو لغة العصر، فالفنان هنا يبحث عن أسلوب يتوافق مع شخصيته الخاصة فأصبحت له رؤية معاصرة جعلت له لوناً من التصميم والعمل الفني المغاير، وهناك فنانون بحرينيون أجادوا في ذلك، وما يشهد على ذلك أن هناك مشاركات مهمة لهم خارج البحرين، والعالم المعاصر يستجيب لها، إذا أنت في تطور فلا تشعر أنك متخلف عن الفنان العالمي في بيئته أو بلده، فالفنان البحريني هنا مع إبرازه وتحقيقه بيئته وكيانه يبرز هذه المعطيات، والأدوات في تحصيل اللوحة بتشكيلة معاصرة تتوازن مع اللوحات العالمية في كل مكان في العالم. الوسائط الفنية الجديدة كأفلام الفيديو والتصور والرسم عن طريق الإنترنت».
ورأى الراحل أن «بعض الأعمال الفنية لا يحتاح اليوم إلى موهبة بل تحتاج إلى تحقيق فكرة وهذه الفكرة لها جمالها الخاص، وأعمال الفن التجميعي أو التركيبي أو الفيديو تحتاج إلى فكرة والفكرة تخلق لها عالمها الخاص ولكن بأدوات مطروحة نستخدمها نحن جميعاً كبشر فيكون لها تأثيرها كما حدث مثلاً لفنان من السويد حينما صنع حوضاً من الماء ذي لون أحمر ووضع فوق سطحه صورة استشهادية فلسطينية فأثار هذا العمل السفير الإسرائيلي، والفنانون القائمون على هذه الأعمال مثل أنس الشيخ أعمالهم محترمة ولها دور فكري وسياسي، فهي أعمال تحتاج إلى تراكم المعلومات بحيث إن هذا التراكم لا يصبح مجرد شيء ينظر إليه بشكل فارغ».
ولم يعتبر البوسطة المناهج الدراسية المتعلقة بالتربية الفنية، مناهج «بل برنامج أو دليل يوصل نوعاً من الإيضاحية الفنية»، مشدداً على وجوب «أن يكون هناك تركيز على المادة النظرية إلى جانب العمل، بحيث تكون هناك لجنة من المدرسين البحرينيين الذين يجب عليهم وضع برنامج مدروس دراسة جيدة، فالنظرة السابقة إلى مدرس التربية الفنية في كونه مجرد معلم للرسم لاتزال قائمة، فيجب أولاً أن تكون هناك رؤية صحيحة تجاه المدرس لكي يستطيع العطاء».
وحول ولع البوسطة برسم الحصان؟ قال البوسطة «إن جدنا كان يمتلك حصاناً أبيض جميل الشكل، حصان عربي أصيل، فترك ذلك أثره وترسب في جيناتنا، فوجدنا أن الحصان هو أجمل الحيوانات في السرعة والمنفعة والقوة والجمال، وكل جزء من الحصان له علاقة بتكوين الحصان نفسه، وكلها معالم فنية فلسفية، فهذا الحصان يهز دائماً مشاعرنا، وهو نبراس مهم في مجال تحريك هذه الصفات في حياة الإنسان والرسول الكريم (ص) يقول: (الخيل معقود في نواصيها الخير)».
المرونة والأصالة والطلاقة
كتب الفنان التشكيلي الرائد عبدالكريم العريض مقالاً طويلاً حول عبدالكريم البوسطة تناول فيه جانباً من حركة الرواد وإسهاماتهم، جاء فيه: «في تناول الحديث عبدالكريم البوسطة، من الضروري أن نلقي بعض الأضواء حول واقع الحركة الفنية التشكيلية في البحرين حين بدأ يشارك فيها ومكانته منها، وكونه أحد رواد هذه الحركة التي بدأت بوادرها منذ الستينات من أتون الماضي، والتي نستطيع أن نؤرخ لها بتلك الجماعة المؤلفة من عدد رسامي البيئة، حيث لم يكن على الساحة الثقافية في البحرين ثمة جماعة قد سبقت تكوين جماعة فناني البحرين».
وأضاف العريض: إن كلمة الجماعة (GROUPE) كلمة حديثة في اللغات الأوروبية وهو لفظ من مسطلحات الفنون الجميلة، ادخل إلى فرنسا عن طريق إيطاليا في القرن السابع عشر، وكان يستخدم للإشارة إلى مجموعة المواضيع المرسومة والمنحوتة، ولأن الفن إبداع بشري يقوم على التشكيل، والرسم والنحت والتصوير والتمثيل يوحي من الخيال الخلاق، فإن مفردة الجماعة المأخوذة عنه، والتي جرى تعريفها في القرن الثامن عشر الميلادي بأنها اجتماعي بشري، الذي يشكله الخيال لتحقيق رغبة مكبوتة أو صعبة التحقيق، وحديثنا عن جماعة فناني البحرين يقودنا إلى بدايات حركة الرواد. وهو حدث «محدث وجديد» أي بمعنى أن الشيء المحدث ليس له مثال سابق ومن أتى بذلك يكون مبدعاً (جاء في لسان العرب) أما لفظ «الإبداع» لمصطلح فني نجده سيطلق على المحصلة الناتجة من العمل الفكري الذي يأتي به الشخص نتيجة لمعاناة فكرية ذاتية، ثم التعبير عنها بإنتاج خاص مرتبط كلياً بذاتية الشخصية المبدعة من حيث التجربة، ويقال إن كل مبدع ذكي، ولكن ليس كل ذكي مبدعاً بالضرورة، ذلك لأن الذكاء شرط أساس من شروط الإبداع، ولكن بحد ذاته غير كاف للإبداع».
وتابع العريض: إن للنشاط الإبداعي ثلاث صفات، المرونة والأصالة والطلاقة، هي الوظائف الإنتاجية للمبدع مستغلة عن بعضها، وهذه الصفات تميز فناناً مثل عبدالكريم البوسطة وعندما نقرأ عما تحدث به عن نفسه نجد هذه الصفات متوائمة مع شخصيته. والإبداع وليد توتر يشابه التوتر الذي تعاني منه نواة الذرة في بعض العناصر ومما يدفعها إلى إطلاق جزء من طاقتها المختزنة في شكل إشعاع. وكان كريم البوسطة ذلك الفنان الخلاق المبدع « Creativil Arest» أو Creatioiv Artest – بين الحاضر والماضي مسار مليء بالتجارب الحياتية للإنسان يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالبيئة أو المجتمع.
وواصل العريض: قليل من الناس ترتبط حياتهم بهدف وضعوه نصب أعينهم لتحقيقه من خلال سيرهم الذاتية، غير أن كريم البوسطة كان من أولئك الذين كان الفن هاجسه منذ البداية وكان تجربته الحياتية ومن هذه التجربة أثرى الحركة التشكيلية في البحرين بما قدمه من إنتاج غزير وأضاف لبنة ذات أساس ثقافي لمدرسة الفن في البحرين ستكون إحدى مناهج تعلم الفن للدارسين، رحم لله عبدالكريم البوسطة زميل مسار كان معنا على الطريق في تأسيس هذه الثقافة الذي كان هو أحد روادها. والتي ترى معالمها اليوم في العديد من صالونات الفن المنتشرة في بلادنا العزيزة والمعارض المتنوعة للفن التشكيلي على مختلف مشاربه ومدارسه.
مرجعية تعود لحضارة «دلمون»
حظيت تجربة الراحل البوسطة باهتمام النقاد العرب ومنهم الأكاديمي العراقي الفنان التشكيلي أزهر داخل، الذي وجد في إحدى لوحاته (فتاتين) أن الفنان يعرض عمله في شكل فتاتين بنهج تعبيري أقرب إلى الوحشية، مؤكداً على قيمة اللون الأسود بتحديد المساحات على وفق تقنية (ماتيس) المنعكسة على أعمال العديد من الفنانين العرب، وبحكم مرجعية الفنان إلى حضارة كبيرة (دلمون) واتصالها والحضارة الرافدينية السومرية، فقد وظف الفنان ملامح الوجهين على وفق مرجعيته الحضارية والتاريخية كقيم جمالية مازالت منبعاً يثري التشكيليين في الاغتراف منه.
ورأى داخل أنه لا يمكن قراءة عمل تشكيلي يستمد رؤيته بعيداً عن الموروث الحضاري والشعبي في البحرين مستنيراً بحضارة دلمون وآثارها، فكان الموروث الخليجي حافزاً مشعاً للفنان في البحرين، وأن لـ(جماعة الفن المعاصر) الأثر البالغ قي هذا التوجه العارم نحو استيقاظ روح الموروث الخليجي والعربي. كذلك تحقق هذا التلاحم ما بين الموروث والتشكيل القَطَري من خلال معالجة الموضوعات المتعلقة بالبحر وفن صناعة السفن الخشبية والبناء المعماري الشعبي والزخارف والألوان وفن صناعة البسط والسجاد وغيرها من الحرف الشعبية. أما في الإمارات وسلطنة عمان لا يمكن للفن التشكيلي إلا أن يكون قريباً من هذا التوجه حيال الموروث الشعبي بفعل تقارب الأسس الاجتماعية في منطقة الخليج، بل إن دراسة أي مجتمع في المنطقة بالضرورة هي عينة صادقة في تمثيل المجتمع الكلي. لأن الخليج كمجتمع لا يمكن تجزئته بحال يتيسر للباحث من دراسته واستخلاص النتائج للأسباب الجغرافية والتاريخية والاجتماعية والاقتصادية المتماثلة، بيد أن النهج الذي ينتهجه الفنان يتفرد عن غيره في البلد الواحد بسبب المرجعية الأكثر ذاتية للبلد وللفنان في دراسته الأكاديمية للتجارب التشكيلية المعاصرة في العالم واختلاف مشاربهم الذاتية ورؤاهم.
وجد داخل بشكل عام أن التشكيل الخليجي ارتكز إلى قيم فكرية تكمن في كينونة المجتمع، وأن الفنانين الخليجيين -ومنهم الراحل عبدالكريم البوسطة- انتهجوا تقنيات غربية معاصرة بفعل المشارب الأكاديمية التي تلقوها. كذلك المزاوجة بين التقنيات المعاصرة والثيمات الواقعية والموتيفات الشكلية والأساطير المحلية لتؤول إلى قيم تشكيلية جمالية متفردة.
وبين داخل أن دراسة الخطاب التشكيلي لدول مجلس التعاون الخليجي وكيفية تعامله مع الموروث الشعبي تكشف عن حالة من الضغط البصري يؤطره المنجز التشكيلي بصيغ جمالية. وتعد وثيقة صادقة للعديد من الظواهر التي غيبت بعضها جوانب المدنية والمعاصرة، وإن كانت المعاصرة تزداد غنىً بهذه الظواهر المجسدة كخطاب تشكيلي إبداعي أنجزها فنانون تشربوا بواقع تسوده الألفة والطمأنينة بفعل تمازج النسيج الاجتماعي واعتدال التوازن الاقتصادي، لذلك كانت ومازالت القيم المتأصلة في المجتمع الخليجي هي ذاتها وإن غزتها المدنية من أوسع الأبواب وبكل صنوفها.
وأضاف داخل إن إعادة تسجيل الفنان الخليجي للتراث ليس استذكاراً متواصلاً غايته الديمومة في العطاء، بل هو تعبير وجداني ورؤية محفزة في الثقافة والفن بقيمتهما السامية لأن معطيات التواصل تمثل إضافة روحية ووجدانية من خلال سبر أغوار التاريخ وإدراك محتواه، فتتكشف الأصالة من تحفيزِ لقدرات الفنان الذهنية الذاتية تعززها قدراته وتجاربه التقنية فيكون الطرح الفني مؤطراً بجوانب عدة منها خزين تراكم في وجدان الفنان عبر قراءته للتاريخ بعقلانية ومنها دراسته التقنية تدعمه رؤيته لكيفية الطرح وشكليته، ينقسم منها المنجز إلى محاور عدة منها النقل الحرفي المحاكاتي أو الاستفادة من الوقائع المحيطة تقنياً وتكوينياً فتكون المزاوجة غنية بينما يكون الطرح الآخر مشوباً بالتشويه لقصور في الفهم والإمكانات التقنية. وإزاء ذلك يظهر محتوى الاتصال بين الفنان والمحيط بوصفه كينونة لا يمكن إغفالها فتظهر حقيقة تواصل الفن التشكيلي والموروث الشعبي الخليجي.