أتذكر في التسعينيات الميلادية، وتحديداً في أغسطس 1990 أن السعودية فتحت الكثير من مشاريع الإسكان التي شارفت على الانتهاء لاستضافة الأشقاء الكويتيين. كانت تلك المشاريع سابقةً لزمنها للتخطيط الذي تمتعت به. حديقة في كل مربع سكني، ومشاريع للمكتبات في الأحياء. بطبيعة الحال لم تطل إقامة أشقائنا فيها، بل سرعان ما تم تأجيرها وبيعها على الناس بعد حرب الخليج. وإذا زارها الإنسان اليوم وتأمل فيها يجد أنها وخلال العقدين الماضيين تعرضت لحرب إبادة للجمال. يذكر رئيس إحدى البلديات في السعودية أن من غرائب الأهلي نفرتهم من الحدائق. إذ يأتي بعضهم إلى البلدية مطالباً بإلغاء الحديقة وتحويلها إلى مسجد، رغم أن المسجد لا يبعد عن أبعد بيت أكثر من أربعمائة متر!
الحديقة ليست ضد المسجد، ولا يفهمنّ قارئ أنني ضد أن تبنى المساجد، لكنني ضد أن تستخدم المساجد للتباهي بأن يضع كل إنسانٍ طرف بيته مسجداً لئلا يكون أقل من جاره الفلاني. الحدائق جزء أساسي من جمال الأحياء. والخضرة هي حياة المدن ونموها.
وعلاقتنا بالحدائق خلال نصف القرن المنصرم لم تكن جيدة. بل ربطت الحدائق بالممارسات السيئة، وأغلقت الحدائق وهجرت مسابحها، وأصبحت لا تسمع فيها إلا حفيف الرياح، لأن الناس لم يتصالحوا في كثيرٍ من ممارسات الحياة مع الجمال. الخضرة هي جمال الروح ورخاؤها وزهوها. مع أننا نتفاءل بمشاريع الحدائق المزمع بناؤها، وأخصّ بالذكر حدائق الملك عبدالله والتي لم يبدأ المسؤول عنها ببنائها بعد.
الحدائق والكورنيش وغيرها من الأماكن التي يقصدها الناس. وهي الملاذ للعائلات في الأماسي والإجازات الأسبوعية، وأي تشويهٍ أو طمسٍ لتلك المعالم يجعلنا نتعجب من التجرؤ على الجماليات والخضرة، ونتعجب من ثقافة البعض الذي ينفر من الجمال، ويشعر بالاستفزاز من كل شيءٍ جميلٍ رائع. فالخضرة هي نبض الشارع وهي لوحة الحي الذي يعيش فيه الناس. فلا حاجة لنا بأن نلغي الحدائق أو ساحات الكورنيش، أو أياً من الصروح الخضراء المزدهرة.
إذا استعدنا تاريخ مدننا في التاريخ مثل بغداد أو القاهرة أو جميع مدن الأندلس فسنفاجأ بالجمال الذي كانت عليه. بل وجدد المهندسون آنذاك في البناء والزخرفة، حتى وضع التاريخ الإسلامي زخرفته الخاصة وبصماته الذاتية على المساجد والجوامع والقصور والبيوت. فالجمال جزء من تاريخنا وليس طارئاً علينا. بل جاء في الحديث أن الله جميلٌ يحب الجمال. وإذا استعرضنا الآداب السلوكية التي شرعها النبي نجدها كلها تصب في الجمال والتنزّه والتطيب والنظر بما هو جميل ومدهش.
البعض يحارب الجمال بحجة التقشف، أو بحجة أن الدنيا دار ممر لا دار مقر، مع أن الشريعة أوصت الإنسان بأن يقوم على شؤون دنياه كأنه سيعيش أبداً، وأن يقوم على شؤون آخرته كأنه سيموت غداً، فهي نسبةٌ وتناسب، وهي رؤية تجمع بين الدين والدنيا. فلنجمل حياتنا التي أحرقت بالاصفرار من الحر، أو بالرعشة من البرد، فهذه البقعة الجغرافية العجيبة لا يصلحها إلا الجمال. الخضرة ونشر الحدائق من دون إسرافٍ في المياه، ومن دون إسرافٍ أو بذخٍ بالمبالغ والمشاريع التي يبيّن بعضها وبعضها الآخر لا يبين.
قل لي ما هو جمال هذا الحي أو القرية أو المدينة أقول لك ما هو سلوك أهلها، وما هو توجههم، فالحياة تحتاج إلى الكثير من المهدئات، ومعلوم أن الخضرة والمشاهد الجميلة والموسيقى الهادئة من العلاجات الصحيحة للنفس التي تدفع على الإنتاج والإبداع. هذه هي دعوتي إلى كل البلدان أن تقوم بتنمية الخضرة والجمال وإيقاف محاولات طمس الجمال المؤلمة والمؤسفة.