بقلم – عادل الحلبي
سبحان سامع الصوت وسابق الفوت سبحان خالق الموت .. ذلك المخلوق الصامد الغامض .. الغريب العجيب .. مُدرك الغايات وكنز العِظات هاذم اللذات ومفرق الجماعات وقاهر الذات بالذات .. مُكدِر الملوك والقياصِرة وقاصم ظهور الجبابرة .. ذاك الزائر بلا نقير .. العابر المُغِير بلا نفير ولا نذِير .. المُمِيت بإذن الله لخلق الله من جِنِه وإنسِه، والقابض لروحِه إذا ما أمره الله به .. ليتذوق من نفسه .. وماقدمت يداه بغرسه .. ويذُوق ما أذاقه لكل حي من كأسه .. وسبحان ملك المِلوك مالك المُلك والملكوت الحي الباقي الذي لا يموت.
تُرى ياموت : أين أنت منا .. أقريب أم بعيد ؟ وأين نحن منك ؟ تُرى كيف بكأسك ومذاقك ؟ ليتك تخبر السُكارى عنك .. لنستفيق قبل أن نُلاقِيك .. تُرى ياموت كيف صورتك ؟ وما هيئتك ؟ نشهد أنك لا محالة قادمُ إلينا .. ونحن مقبلون عليك .. وأنك حقُ علينا .. وإنّا ماضون اليك بلا شك لا مهرب ولا منجى إلا لك.
عجباً لهذا الكأس .. وعجباً للنديم .. ذلك الطائر العجيب الصنف الذي لم نعرف له وصف .. الذي يخترق السُحب والبحور والظلمات والنور والحُجُب والدُور وأفخم القصور والسجون والحِصُون .. ذلك الذي أرهق أذهانُنا، وأزهق عُظماؤنا وكُبراؤنا، ذلك الذي غدا وراح وقبض ماقبض من الأرواح ولم يخلُف وراء ظهرِه غير البُكاء والنُواح .. ذلك الذي ماسهى وما لهى ولم ينم ولم يتوقف ولم يتأفف وقبض ما أومِر به ولا أعذر ولا أنذر وما قدّم وما أخر .. يالهول حضوره .. فلا أسوار تمنعه ولا حراس تردعه .. ولا اُذنُ واعية تسمعه .. ذلك المخلوق الشرس الصِندِيد الذي خضعت لهيبته السلاطِين وملوك الأرض .. ذلك الدءوب الذي مارقت له قلوب .. ولا لدنه صاحب ولا مصحوب .. ذلك الشديد العتيد الذي لا يخطِئ ولا يُحِيد .. وما بين الكأس والنديم .. تطوى الصحف وتجف الأقلام .. وكم من علامة استفهام ؟
سؤال بلا جواب .. لم يجب عليه من غاب .. ولم يخبرنا عنه الصحاب والسابقين ممن سبقونا وولجوا من بوابة الحق اليقين .. ذلك السؤال الذي تحيرت فيه العقول .. ليس لتطفل أو فِضول حاشى لله .. ولكن الذهول وقف حائلاً بيننا وبين ذاك السؤال الذي شابت له نواصي الألباب .. وما وجدت له من باب .. تُرى بمن سبقونا كيف تذوقوا كأس الموت .. وهل كان كضرب السيف على الرقاب ؟ .. وهل تقطعت منهم الأمعاء والأوصال .. أم كان وقعه أشد من حد النِصال على النِصال ؟ .. وهل كان مريراً وثقيلاً كالجبال ؟
اُواه ياذاك الكأس الذي لم نعرف له طعماً ولا مذاقاً .. ولم ينبئنا به من ذاقه .. وهل لأحد قد راقه أو تاقه .. وما لأحد قد اشتاقه .. تُرى كيف مذاقه ؟ .. لكن الجزم بعين اليقين أن ذاك الكأس شئنا أم أبينا حتماً سنتجرعه ولن يكون مستساغاً .. ولن يكون مُحالاً .. مُحلى ولا سائغاً ولا شهداً ولا عذباً ولا ماءاً ولا زلالا.
فمنا من سيتذوقه وهو مستلقِ على سرير المرض اللعين .. بعد طول سنين وملل وأنين، ومنا ممن سيتذوقه وهو غارق في ذاته وملذاته مابين أقداحه وخمرِه، وأفراحِه وطبلِه وزمرِه على حين غفلة من عمره، ومنا من سيتذوقه بعد أن يُرد إلى أرذل العمر، ومنا من سيتجرعه على معصية بين يدي غانية ويفتضح أمره، ومنا من سيتجرعه على حسرة أو عثرة أو حادث اليم، ومنا من سيتجرعه وهو كاظم مُلِيم، ومنا من سيتجرعه غريقاً في عرض بحر هائج طوى من قبله الحيتان والأبدان، ومنا من سيتجرعه في حريقاً بلغ به مبالغ العنان .. ومنا من سيتجرعه على عُجالة وتتقطع أحباله ومنا من سيتجرعه على مهل وتتمزق أوصاله، ومن من سيتصبب عرقاً ويلجمه الجاماً، ومنا من سيلقاه عذاباً وغراما.
لكن تُرى كم سيطول المذاق أو تجرع كأس الفِراق .. هل برهة أم دقائق أم ساعات أم أيام أم شهور أم سنوات ؟ .. تُرى هل سيطول بنا الخريف .. وهل سيبدأ تذوق أول جرعاته على يد النديم بشكله المرعب المخيف أمام جسدِ هزيلِ ضعيف ؟
أمنت بك اللهم يامخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي .. اللهم إني أسألك بقدرتك علينا وذلنا وخضوعنا وانكسارنا لعظمتك أن تذيقنا كأس الموت الحق وأنت لا طف بنا وأسألك بعرشك الذي لا يضام أن تسقينا ذاك الكأس مابين تسبيحه وتكبيرة أو بين صيام وقيام أو بين توبة وتلاوة أو بين دعوة وسجدة.
اللهم إنّا قد لهونا وكذبنا، وأذنبنا وقصرنا، ومضى منا العمر ياصاحب الأمر .. اللهم إنّا أنخنا رقابنا ببابك خائفون مرتعدون بجنابك نخشى غضبك وعذابك .. اللهم أرفق بنا وتحنن علينا، وترفق وسامح من غفا وأخفق، وتجاوز عن جُل المعاصي والذنوب لمن أشرف على الغروب، ولّطف الكروب وأجبر كسر القلوب التي تلهج بعفوك ياجميل المغفرة .. يامن خضعت له الرقاب، ولم يغلق لله باب وتجاوز يارب عن الزلات وأكتب لنا صادق التوبات والتثبيت والثبات قبل الفوات، وأختم علينا بالصالحات وهون السكرات قبل الممات .. اللهم أجعل الكأس ونديمه ياربنا ياربنا برداً وسلاماً على قلوبنا.
وصل الله وسلم وزد وبارك على سيدنا الحبيب محمد وعلى آله وأصحابه وسلم